top of page

aboutMe

Egyptian writer and photographer, graduated from the Faculty of Media and Communication Arts, Radio and Television Department, interested in writing in philosophy, literature and film criticism.

أشباح نجع القاهرة

  • صورة الكاتب: Hossam Elkholy
    Hossam Elkholy
  • 26 سبتمبر 2021
  • 7 دقائق قراءة



وُلدت خارج مصر، في الخليج. هناك قضيت سنواتي الأولى مع مربية غير عربية، دون أصدقاء، عدنا إلى مصر للتعليم والحصول على شهادة ولنعيش عيشة أهالينا. والدتي من القاهرة، والدي ليس قاهريًا، ظللت طفولتي كلها أتنقل نتيجة ظروف عمل أبي، ومزاجه، ما بين القاهرة في الداخل كقاعدة أساسية تحتويني ولا تحنو عليّ من غدر الزمان، وخارجها نحو الأقاليم المختلفة أو بالسفر إلى الخليج والعودة مرة أخرى. ثم ابتلعتني القاهرة بعد ذلك مرة واحدة دون رحمة.


كنت أقرأ الأدب وأشاهد السينما والتلفزيون باستمرار، الثابت الوحيد في حياتي، مع الوقت قررت أن تتعلق دراستي وحياتي بهما، تخرجت وعملت كمصور وناقد فني، أكتب عن السينما والأدب، كنت أجد في صياغة شخصياتهما -ربما إلى الآن- إصرارًا غير مبرر على أدلجة القادم من القرية إلى القاهرة ضمن مواصفات وُضعت سلفًا في سياق ظرفية تاريخية يُبنى عليها دون مساءلة: ابن القرية يحمل سذاجتها وذنبها غير المُرتكب في البُعد عن المدينة التي يظهر أبناءها دائمًا ملوك الفهلوة والتنطيط والشيطنة، ليصبح الأول فريسة أغبى أبناء الأخيرة منذ وصوله بالقطار أو السيارة، الشاب ضحية أول فتاة جميلة، والفتاة ضحية لأول ذكر. كانت، ولا زالت، هذه السذاجات تضحكني وتصيبني بالغضب في الوقت ذاته.


في فترة ليست قليلة من حياتي تفرغت لقراءة عدد من الكتابات المؤسِسة لتصورات الإنسان عن تسكينه في القرية أو حشرُه داخل المدينة، عن مفهوم المدينة والقرية الكبير وتفسيراته الشخصية في أزمان مختلفة من التاريخ، وما يمكن أن يميز شخصية عن غيرها، ولم ترضني التعريفات الجامدة غير الشافية التي كنت أجدها عمومًا في كل مرة، أو هذا ما بقى في قلبي، بعدها ارتكزت أكثر على خلاصة أفكار قدمها المؤرخ جمال حمدان (1928-1993) في مجلداته الكبيرة عن شخصية مصر وجغرافيتها وأهلها، ومن تبعه بتنظير، دائمًا ما كانت تثير استنكاري ثم غضبي.


كنت أتساءل طوال طفولتي عن محورية القاهرة في كل أحاديث أبي وأمي: تمرين النادي الذي ألعبه بشكل أسبوعي في القاهرة لن أجده في الأقاليم بالمستوى ذاته، الدروس الخصوصية التي عليّ حضورها من الأفضل أن تكون هناك، الحصول على صداقات من القاهرة في قلبه وجاهة اجتماعية لن أجدها في سواها. ومع الوقت كنت أتساءل عن استثنائية هذا المكان البديهية لدى من حولي رغم تشككي فيها.

أين كانت القاهرة قبل أن تبثقني الطبيعة فيها؟ هل هو مكانها الحالي ذاته الذي يتمحور حوله كل شيء تقريبًا؟ كنتُ أتخيّل إن كانت القاهرة تلك التي يقذفون عليها شهوتهم في الشرقية أو أسوان أو دمياط بلد حبيبتي القديمة، دفعني ذلك لتتبع وجودها كفكرة، لكن أكل دماغي تصور أن المركز كان خارج القاهرة بضع مرات، أين كنت وقتها يا حظي السيء؟


القاهرة سرة مصر وتحزيمة وسطها وملتقى الصحراء ومجمع الوادي ومنبت الفرعين، ما جعلها تتحرك ربما دون وعي من الجميع؛ من منف الفرعونية (البدرشين) إلى هليوبوليس (مصر الجديدة وعين شمس) إلى بابليون (مصر القديمة) إلى الفسطاط إلى العسكر الطولونية إلى القاهرة الفاطمية إلى القاهرة التي نعرفها الآن بشحمها ولحمها الزائد عن الحاجة والتي كانت في الأساس أول مكان يُتخذ كعاصمة في بداية عصر الأسرات الفرعونية: الأرض كروية والدنيا دوارة، دارت مركزية القاهرة دورة كاملة ثم عادت لمكانها الحالي. القاهرة معتقة أكثر مما هي عتيقة، بوتقة مصر الأولى وحلمها الممتد. بلد تقل طموحاته، والحكومة أكبر صاحب عمل فيه.


القاهرة تتحوّل الآن أكثر من أي وقت مضى، تتوغل وتتسرب وتنصهر حدودها، تصبح بلا بداية واضحة أو نهاية مُدرَكة جيدًا، تمزّق نفسها كالمسيح، من أجلك أنت سيدي المواطن، تقدم قطعة أرض لمَن سقطت بيوتهم هناك، وقطعة أخرى للقادمين من الخلف والأمام ولا يمكنهم السكن في قلبها، وثالثة كعشوائية مُهندسة بالدهلكة، ورابعة تخرج من قلبها تتقهر بعد ترييفها، وكله بالحب.


السكن في القاهرة عمومًا معاناة على القادمين من الخلف والأمام، لا تنقسم الوظيفة التي يعملها أحدهم عن توزيع الطبوغرافيا الاجتماعية والتوزيع الجغرافي للطبقات على الأرض. قبل زمن قريب كان لكل طبقة منطقتها، بالطبع يملك كل إقليم ومنطقة ومحافظة سمات خاصة لكنها تُصب في القاهرة، بعد أن تلتهم صفات أهل أي مكان خارجها وتخلعها بعد احتقار يتقبله قليلو الحيلة والثقة في أنفسهم، تصبح هي الطموح والمثَل، وتنتزع خصوصية الآخرين دون وعيهم، كل الطرق والطموحات تؤدي إليها «وإذا كان النيل يصب في مصر، فإن مصر تصب في القاهرة» كما قال جمال حمدان.


كانت الفوارق التي يمكن أن تُصبغ ساكن مكانٍ ما عن غيره بسيطة وغير مُفسّرة لشخصيته ذاتها بشكلٍ كبير. ظهور المدينة في تكوينها العام بلور المتواجد داخلها وحمّله صفات محددة ونزعها عمَن هم خارجها، غير المديني في الغالب متشبّع بعاطفة تزيد عن الحد المتوقع، شخصيته ذاتها يمكن وضعها في مقابل ابن المدينة، وإذا كانت تلك التفسيرات مبتسرة نوعًا ما للبعض، عليّ أن أؤكد أني لا افترض تقسيم الأفراد بجذرية تضع كل معسكر على نقيض الآخر بقدر محاولة توضّيح السمة الغالبة التي يمكن للفرد اكتسابها دون وعيه لكن بتأثيرات محيطُه الخارجة عن إرادة كل فرد منهم.


مصر تشذ عن دول العالم الذي لم يجد مدينة دون سور يحوطها ويضع أطارها المميز باستثناء اليابان وبريطانيا بفضل جغرافيتها الطبيعية ووجودها مجازًا على ضلوع قارة. باتت الصحراء هي السور الطبيعي لمصر، وُجد السور في بعض مراحل تكوينها منذ القدم ثم رفضه طورها الأخير، ولو بشكل مجازي، فأصبحت تجد في مصر القديم داخل الحديث، والأصيل بجانب الدخيل، والعشوائيات تجاور قصور الباشوات، الكل يسير بمحاذاة النهر في خطة بلا تخطيط مع استثناءات قليلة لا يبنى عليها شيء.. الجميع في الخلاط، وكلها بتاكل عيش.


عندما كنت شابًا أرعن -أكثر من الآن بالطبع- أكره الملكية الفردية، في عراك مع أهلي لأنهم كانوا يجبروني على شراء شقة في القاهرة، كان ماركس يعاتبني في المنام. كانت اقتراحاتهم كلها تتمحور داخل القاهرة، اكتشفت بعدها أن عليّ الاستجابة لمركزية القاهرة إذا كنت اخترت العمل الفني، فهي المكان الأكثر توفيرًا للفرص رغم كل شيء. ما يميز القاهرة عن الأقاليم مساحة فرص العمل التي تجبر الجميع على الانتقال من مكان لآخر.


لكن الأبطال الذين أقرأ عنهم في الكتب وأراهم على الشاشات لم يكونوا أبدًا هم ذاتهم الذين أقابلهم باستمرار على الأرض؛ لا لغة عادل إمام في «رجب فوق صفيح ساخن» ولا لهجة ممدوح عبد العليم في «بطل من ورق» ولا ملابس محمد هنيدي في «صعيدي في الجامعة الأمريكية» ولا حتى سذاجة محمد رمضان كـ«واحد صعيدي» هذه الأفلام، وغيرها، تُنطق أبطالها بألفاظ ولهجات لم تعد موجودة بهذه الطريقة. هي أعمال لا تعبّر إلا عن الجهل بتلك المناطق، ولا تصلح واقعيًا في سياق الأبطال وحياتهم فهو ليس بهذا التنميط الاستشراقي الفج الساخر.


لم يتغيّر موقفي المُشكك في أهمية القاهرة، ومع الوقت اكتشفت أن ما يهمني الإنسان ولو ملوش عنوان، تركزت نظرتي أكثر على مواطن القاهرة الجديد، الذي لم يعد يتبعها أساسًا، فهي لم تعد تميزه دون غيره في شيء، ومواطن الأقاليم الحديث، الذي لم يُعد بريئًا من فهلوة أبناء المدينة.


هذا غالبًا ما يقلل الخصوصية القديمة التي كانت تميز القاهرة في زمن سابق رويدًا رويدًا. يجعل القاهرة التي تمتص الهجرة الداخلية لأبنائها وتجمعهم في أحضانها شيء غير ذي جدوى، الآن ماذا يحدث؟ تتريف مدينتها وتتمدن أريافها بالتنقل المستمر لأولادها في عصر تُستخلص أفكاره من مواقع التواصل الاجتماعي المُتاحة للجميع، ما يدعونا ربما لتغيير نظرتنا أدبيًا وسينمائيًا لمَن هم خارج وداخل القاهرة في هذا الظرف.


جعلني ذلك أسعى بقوة لتقديم استنتاجات مخالفة سببها اختلاف الزمن والظرف بين ما عايشته وبين ما اختبره المؤرخ وأتباعه. كنت أرى أن الذات المُقدمة سينمائيًا وأدبيًا باعتبارها الأشياء التي شكلت وجداني ممزقة بين قرية ومدينة، لكنه لم يكن سوى تمزق داخل محدودية التواجد في الدولة عمومًا ككيان مكتمل. أظهرت وسائل التواصل هذه المحورية وغيّرت نظرتي أكثر من أي شيء.


محورية وسائل التواصل الاجتماعي في السياق الزمني الحالي قزمت الانبهار والتباعد الظاهري، أسّست مكانيًا للبحث عن أبطال أكثر تركيبًا وتعقيدًا لم تقدمهم السينما والأدب بعد. أبطال أجدهم كل يوم في طريقي داخل القاهرة والدلتا والصعيد ولا أجد لهم مكانًا داخل الشاشة أو في الكتب دون معرفة سبب ذلك. وضع وسائل التواصل الاجتماعي في المعادلة قد ينتج أبطالًا أقل تنميطًا وأكثر احتكاكًا، يدعونا للبحث عن أبطال من لحم ودم القرية والمدينة وأكثر قربًا منهما وتعبيرًا عنهما دون فجاجة بصرية ومكتوبة، ويجعلنا نقدم صورة أنضج أقرب للحقيقة وأبعد من خيال كاتب يستسهل الأشياء، وتسيطر عليه أحلام يقظة برجوازية ترى الآخر مخلوقًا فضائيًا مُهدِدًا.


لم تعد المدينة القاهرة كما كانت، ولم تعد الأقاليم القروية كما كانت، وكلها عندها أزمات هوية يا أستاذ جمال حمدان، تظهر فجوة عدم امتياز منطقة عن أخرى سواء داخل المدينة أو خارجها من القاهرة دون غيرها، لماذا؟ سأخبرك:


مصر في داخلها مدينة كبرى هي القاهرة، وقرية كبرى هي الأقاليم التي تستقي أفكارها وفنونها لتحاكي المدينة التي دائمًا ما كانت ولا تزال تنسحق أمامها، على ما يبدو أنه مع وجود الإنترنت أصبحنا جميعًا في نجع القاهرة؛ الحياة للأغلبية واحدة: باهظة التكاليف قليلة الفرص.


في شهر رمضان السابق كان هناك إعلان عن عقارات تابعة لرجل أعمال شهير في مصر، يمايز ما بين شراء أحدهم في كمبوند الشيخ زايد أو التجمع، شاهدت الإعلان مع أحد أقاربي في الشيخ زايد التي أسكنها، إلى أن جاءت زوجته وأخبرته بحدّة ملطّفة أن السخرية من هذا الأمر علينا أن نتركها للفلاحين، وأنهما إذا كانا لن يستطيعا الحصول على مسكن في العاصمة الجديدة، لا شيء أهم من استثمار أموالهما في «زايد» أو «التجمع» بدلًا من أن يُجبرا على العيش وسط «زحام المهندسين وزبالة الزمالك» تظاهرت أني لم أسمعها جيدًا، كانت المرة الأولى التي أسمع إنسانًا يعنصر على أكثر المناطق عنصرية في تاريخ مصر الحديث والقديم، ثم غنيت مع الإعلان «بتهزر بتهااااازر»


الطبقة، فقط، هي التي تصنع المجتمع الجديد، تميّز نفسها وتتهم الآخرين بالرجعية في كل شيء، على مر الزمن كانت وصمة ضمنية أن يتهمك أحدهم، هذا صعيدي وهذه فلاحة، الآن تتغير الأمور، يُسحب البساط من تحت القاهرة، وتسقط هالة انبهارها وتميزها أكثر من أي وقت.


وإذا كانت القاهرة تعملقت وأصبحت أم مصر لا ابنتها، مكانيًا، استغلت الصعيد كترعة مياه والدلتا كمصرف وسرقت سواعد أبناءها وبناتها لخدمتهما فهذا لا يجعلها تملك أفكارها ومآسيها الخاصة التي تحاول السينما والأدب حلبها في كل عمل، لكن توسّع أبطال القاهرة يخص ذواتهم لا يخص مكانهم الآني. في حكايات أبطال القاهرة تتداخل بداياتهم مع طموحاتهم قبل دخولهم للقاهرة أساسًا في الغالب، بل يمكنني زيادة جموحي بالقول بأن هذا تحديدًا يفككها أكثر مما يربطها، يقدم حكايات مختلفة ومتنوعة بعدد أنفس الخلائق في سياق الحكاية لا المدينة؛ لم يعد الإنسان ابن بيئته تمامًا، بل أصبح ابن الإنترنت. يمكن إيجاد مواطن داخل القاهرة ومعزول عنها قدر انعزال ابن قرية نائية، يتحرك في مساحات ضيقة، يعرف عن العالم القاهري ما يعلمه الخارج عنها: مواقع التواصل تقدم له المعرفة وتجعله في عدم اشتباك حقيقي مع تلك المعرفة لتصبح هذه المعرفة بمثابة جهل مركب. فالحكايات واحدة تفصلها «الطبقة» سواء وُجدت في المدينة أو القرية، ولا تفصلها إكليشيهات السينما والأدب القديمة التي كانت لا تزال تصوّر ابن القرية كشخص خرج لتوه من الكهف متجاهلةً وسائل العرض التي تسمح له بالتلصص على العالم في كل خطوة.


من بين كل شوارع وأحياء القاهرة ودهاليزها، الأكثر عشوائية من موقف رمسيس، لن تجد ما يقابلك في أغلب قرى الدلتا والصعيد عندما يسبق تسميتها بـ«ميت فلان» أو «كفر علان» أو «نجع الزمان»، والنجع أو الكفر هو «مكان صغير يحط فيه الناس رحالهم لوجود الماء والعشب» وهو مصطلح يمكن اعتماده لوصف أغلب كمبوندات القاهرة وأحيائها لولا تأفف طبقي سيظهر من البعض، والحقيقة أن القاهرة لا يميزها أي شيء، وإذا كان الجميع يرتحل إليها فعليًا وعلميًا فربما هي ليست سوى نجع كبير.


علينا تجاهل قصة الانبهار القاهري تلك لأنها «مبقتش تأكِّل عيش» حرفيًا ومجازيًا، كل يوم نحتاج إلى قصص استثنائية تحكي عن غرباء المجتمع المعاصر الذين تتجاهلهم الفنون سواء كانوا في القاهرة أو أقاليمها، نفسي أشوف ناس غريبة ومش غريبة يا فنانين.


نُشر في مدى مصر

 
 
 

Comments


bottom of page