top of page

aboutMe

Egyptian writer and photographer, graduated from the Faculty of Media and Communication Arts, Radio and Television Department, interested in writing in philosophy, literature and film criticism.

إشكالية الضعف البشري في أعمال إيفان كليما

  • صورة الكاتب: Hossam Elkholy
    Hossam Elkholy
  • 24 يونيو 2018
  • 11 دقيقة قراءة





ree

"مجلة مرايا الثقافية" ثمة قناعة ما كانت لدى الفيلسوف العدمي جان بول سارتر: أن كل ثورة لها كتّابها الذين يسبقوها. باعتبار أن الكاتب في حد ذاته ككيان منفصل؛ عليه أن يسبق الجميع بخطوة أو ربما خطوات، يعطينا من خلالها الكلمات العظيمة التي ترسخ في الأذهان وتُعبّر عن الجمع البشري؛ غضبه وثورته، أزمته وحلولها، هواجسه، عواطفه وحيرته الدائمة تأكيدًا على أنه "أينما حلّ الظلم فالكتّاب مسئؤلون عنه".

أو بتعبير آخر للأديبة الفرنسية جورج ساند أنّ صناعة الكتابة في ذاتها هي "صناعة للحرية"؛ سواء لحرّية الفرد من كيانات أو حكومات تكبت رغباته ومحاولاته للتغيير أو تحرر من مفاهيم سائدة قد لا تناسب الوضع الجديد أو المُتخَيّل.


هؤلاء وغيرهم وضعوا فرضيات وتصوّرات ربما لا تعطي الكاتب وكتابته في ذاتها أفضلية أو استحقاق مُتوهَّم بقدر ما تختصر جوهر فعل الكتابة: أن الكاتب الحقيقي يعاني ليشعر بالجموع وما يريدوه -ربما قبل شعورهم نفسه تجاه الأشياء- وأنه يملك وجدانًا أكبر من قرّاءه يمكّنه من اختذال تصوراتهم وانفعالاتهم وصياغتها/التعبير عنها؛ سواء كانت إنفعالاتهم السياسية أو الحياتية العادية غير المدركة بوضوح. تصوّر ربما أثبت نسبية صحّته وجدّواه مع مرور الوقت، ومع تتابع الثورات ودعوات التحرر المجتمعي في أرجاء العالم.


سبقت موجة الربيع العربي على سبيل المثال مجموعة من الكتابات لكتّاب ومدوّنين معارضين للأنظمة المتواجدة في كل بلد قامت فيها ثورة على حدة؛ هؤلاء شاركوا في صناعة وعي جديد -ذاتي وعام- جعلوه يتشكّل ضد الأنظمة، كتابات تنتقد المخالفات الشرطية في الأقسام، ونقاشات تُثار وجدالات إجتماعية حول إعادة صياغة وتشكيل معايير الآداب والأخلاق العامة للمجتمع، مسار العلاقات العاطفية التي تدور في عقول الأجيال الجديدة، واستطاعت -إلى حدٍ ما- تحريك الماء الراكد المحرّم الحديث بشأنه قبل ذلك، فكانت بمثابة بوتقة لصرخات البقية؛ من لم يستطيعوا صياغة حديثهم الذي يريدوه أو يخافوا من التفوّه به.


في خمسينيات القرن الماضي، داخل دولة التشيك، التي تتوسّط أوروبا، كانت الدولة آنذاك مغروسة بقدميها مع مجموعات دول أوروبا التي لم تتوقف عن القتال طوال تلك السنوات.


فدولة تشيكوسولفاكيا الموحدة أُمِر بتفكيها لإحتلالها فيما بعد، تفكك دولتي سياسي تبعه بالضرورة تدمير لعلاقات إجتماعة، إنسحابات عاطفية جبرًا لأحبّة في الزمن الخطأ؛ مرة بسبب انغشالات الحرب والأخرى بسبب الانفصال.


آنذاك -أو ربما طوال الوقت- العالم يقتل الضعفاء دون ذنب. دون شفقة لفقدانهم. فوق كل ذلك هناك شيء أسوأ كثيرًا بالنسبة لأي يهودي وُلد أو عايش في تلك الفترة؛ محرقة ضخمة أمر بها هتلر؛ كانت رسالة مباشرة لليهود قادمة من الغرب حيث تقع ألمانيا بما تمثّله من رعب: لا تقترب من أحد، لا تبتعد عن أحد، ستُقتل أينما كنت.


ما الذي قد يحدث لو ولدت محكومًا عليك بالموت؟ لو واجهت الضعف البشري (مرة بما يمثله من شر محض وأخرى بالعجز عن دفعه) وعواقبه دون أن تعيه أو تفهمه تمامًا؟ ربما لا شيء، فقط إذا اختارك القدر لتعيش بعد ذلك ربما ستفهم جيدًا هذا "الضعف" أكثر من غيرك.


أسئلة كثيرة مستمرة بحكم صيرورتها ووجوديتها لكنها كانت حاضرة أكثر لمن عايشوا خمسينات القرن الماضي، لليهود بشكل أزّموي وللعامة الباقية؛ من لم يريدوا الحرب. أسئلة كانت تحتاج لكتّاب من وسط كل ذلك، عايشوه ليكتبوا عنه ويفكوا طلاسمه.


على ما يبدو كانت تلك الأسئلة وغيرها شاعرية وفلسفية في العموم، أي يمكن تشكيلها أدبيًا وفق كاتبها نفسه؛ إذا ما كنت قرأتها سلفًا لأحد أشهر وأهم كتّاب التشيك الذي عاصر تلك الفترة أيضًا ونجّاه القدر؛ ميلان كونديرا. الصديق الشخصي للروائي والأديب إيفان كليما المنوط به تلك المقالة؛ فلن تجدها عند الأخير بنفس درجة التهكّم والسخرية التي أملاها علينا كونديرا لكنها أكثر حضورًا وإظهارًا لمدى الحيرة التي تنتجها، وهو ما يمثّل أحد عناصر قوة وديمومة التناول الأدبي للأحداث التاريخية؛ فقد يظهر بقوة في تلك الحالة؛ حيث يمكنك استنباط واقتباس أحداث قديمه بما يكفي سواء عايشتها أو قرأت عنها لتصنع منها تساؤلك الشخصي أو قناعتك الخاصة تجاه العالم والأشياء.


كليما الذي يعيش في منتصف العقد الثامن من عمره حاليًا، ولد في مدينة براغ بالتشيك عام 1931، اعتقل في العشرينات من عمره في معسكر اعتقال نازي لكن القدر منحه فرصة أخرى للحياة والهروب من الموت في الحرب العالمية الثانية. يعلم جيدًا هو الآخر كلمات سارتر وغيره عن ظهر قلب، لم يتردد عن الاستمرار في الكتابة رغم كل شيء والبحث عن هويته وكينونته.


على لسان واحدة من أبطال رواياته يقول كليما: لعلها إن كانت قد عرفت إلى منْ تنتمي كانت تصير في حال أفضل. إن المشكلة هي لِمَن ننتمي حقًا؟ ستة مليارات من البشر على وشك ختام الألفية الثانية، في عالم مُعوّلم، مسمى أنيق أطلقوه على موقف تضاءلت فيه الآمال وصارت الإنجازات العظمى الوحيدة هي المتاجر الكبرى". في حين أنه حتى أكثر العلماء والعباقرة "ليس لديهم إحساس بالأمان، ليس لديهم أدنى فكرة عن الإتجاة الذي يجب أن يتخذوه بينما يبدو كل ما محيط بهم فاقدًا لأي إتجاه. يمكنهم امتلاك كل أنواع المتاع لكن الممتلكات لا تفعل سوى أن تضيف للإحساس بالفراغ، وهو فراغ لديهم الوعي به، لأنهم ليسوا رعاعًا كأؤلئك الذين تعلّموا التكيّف وتحمّل كل شيء. إنهم حساسون لهذا الفراغ الذي نغض عنه أبصارنا، الفراغ الذي يجب على الجميع أن يملأه".


كانَ هؤلاء الكتّاب السبب الأساسي في ربيع براغ الذي وقع في عام 1968 والذي تحررت فيه البلاد وصولاً إلى الثورة المخملية عام 1989 وعودة الحرية السياسية لتشيكوسلوفاكيا، ساهموا في التحرر من قبضة السوفييت الشيوعيين التي كانت تقف لهم بالمرصاد؛ تصادر كتابتهم وتترصدهم للإعتقال طوال تلك الفترة، لكنهم لم يستطعوا السيطرة؛ بالهروب والمقاومة ورمزية الكتابات؛ فكان كونديرا مثلًا يحاول التحايل بروايات شديدة الرمزية، إلى أن ترك البلد بكاملها ليكتب عنها أيضًا بينما يقيم كليما حفلات يومية للكتاب في منزله للنقاش حول الأدب والسياسة وما يمكن تغييره.

ظل هذا الجيل طوال الوقت مرتبط بالمدينة التي نشأ فيها، سواء من رفض مغادرتها ككليما، أو من غادرها وظلت في رأسه ككونديرا، حضرت في أعمال كثيرة لهم سواء بإسقاطات سياسية أو علاقات عاطفية عاصروها وقت الموت المنتشر.


أكثر من أربعين عمل أدبي أنجزهم كليما، كان أشهرهم منذ تفرّغ للكتابة؛ مجلده الأكبر "مجنون القرن". هو يعمل على رواية كل عام، تُرجمت أعماله لحوالي 32 لغة مختلفة حول العالم، كل ذلك بعد أن كانت تمنع كتاباته، فقط في الأسابيع والأشهر التي تلت الثورة المخملية، بمجرد سقوط الشيوعية باعت أحد كتبه أكثر من 50000 نسخة.


كان كليما مهموم خلال جزء كبير منها بإعادة طرح أسئلة قد تبدو بديهيات؛ عن الفراق، التخلّي، والضعف البشري في أشمل صوره، ذلك الذي يجعلنا ضحايا لمظلومية كبيرة سواء لأصدقاءنا أو أحبابنا أمام العالم الذي أحببناه في الأساس لأجلهم، أو تجعلنا أشرار؛ نؤذي الآخر ربما إثباتًا لأنفسنا بأننا أقوياء أو ربما طمعًا في الكمال الأبدي والخوض في المجهول.


ماذا لو لم تكن الحرب؟ أو لو كانت تلك الجميلة التي أراها لتوّي لا تريد سواي؟ هل يهيء القدر ظروفه لوهم إسقاط القدسية على أشياء بينما الشر على أخرى دون أن يكون الأمر مجرد تماهي وعدمية لا يمكنها تمييز الغث من الثمين والنافع من الضار؟ هل يمكننا بالفعل التخلّص من الضعف البشري؟ ذلك السبب الأبدي وراء كل أزمات الحرب والحب؟ نحاول خلال المقال استعراض روايتان لإيفان كليما نستحضر من خلالهم تصوراته عن كل ذلك.



حب وقمامة.. البحث عن علاقة نظيفة

في روايته "حب وقمامة"، الصادرة عن دار التنوير، وهي أول ما تُرجم له للعربية، والتي صدرت طبعتها الأولي عام 2012، للمترجم الحارث النبهان في حوالي 286 صفحة من القطع المتوسط. نجد غلاف حشائش وطريق ممتد يتوسّطه وردة حمراء وحيدة؛ ربما رمز كليشيهي دائم للذين يقفوا وحدهم في الطريق بدون آخر قد يُفتَقد في هبّة رياح قوية ليصبح بجانب القمامة، أو حتى يجد نفسه وسط تلك الأشياء فيشغله الاعتياد عن النظر بعيدًا لما قد يستحقه بالفعل، لكن ثمة شيء يحدث في الغالب يمكننا فهمه؛ يخوض الإنسان صراعه مع الحياة وحيدًا على أي حال، أو مع أشخاص غير مناسبين بالقدر الكافي غالبًا، ربما ليظل بحثنا مستمرًا، والتوق دائمًا لحياة أفضل نلتحم فيها -ضَعفنا- بضَعف الآخر لنتقبّل تلك الحياة كحدث جديد غير ممل. "نسير وسط القمامة والرماد وهباب الفحم، والمطر المسموم، والنسيان، نسير مثل ملائكة يتجاوزوا الحياة والموت والزمان" لنعيش.


معظمنا يعلم مدى التأثير الذي تتركه داخلنا مهنتنا سواء على طريقة تفكيرنا عمومًا أو محدّدات علاقاتنا العاطفية والعامة. خاض الكاتب هنا خلال نصه الذي استوّحاه من سيرته الذاتية رحلة ربما غريبة نوعًا ما: ترك عمله الأساسي ليصبح عامل نظافة بشكل مؤقت. يعلل ذلك بأنها "قد تكون أجمل مهنة يقوم بها رجل، فالكناس ينال احترام الناس جميعًا". ربما يحاول وضع إجابة لأسئلة فلسلفية خاصة قد تكون شغلت آخرين؛ هل فكّرت ذات مرّة كيف يُحب عامل النظافة؟ لماذا؟ ما الأشياء التي يمكنها التأثير عليه؟ ما تصوّراته عن العلاقات العاطفية / المجتمعية؟


يدخل في حياة الكنّاسون أكثر، يعتبر أن كل الحديث الذي يبثقه الكنّاسون يشبه "المكانس العتيقة"؛ القديمة حادة التعامل التي تبلع كل شيء وتتخلّص منه في آن. فهم "يمشون في شوارع نظيفة فلا يخوضوا صراعهم المعتاد بينما يجدوا غيرها مليئة بالقمامة". تحتاج النظافة ربما كل بضع ساعات، من ذلك ومع مرور الوقت؛ يكتسب الكنّاس خبرة أي الشوارع تملأه القمامه عن غيره في حين لا يمكنه ترك الأخرى شبه الفارغة دون أن ينظر إليها من وقت لآخر.


يبدو أن الكاتب يحاول التعامل حياتيًا وبجذرية واضحة كما يفعل الكنّاسون مع علاقاته العاطفية وربما السياسية؛ يبحث جيدًا قبل ضياع الوقت في شارع/علاقة غير ذات جدوى أو مستنزفة، كما يعتبر "أن بقاء المرء مع شريكه السابق بعد أن يحب شخصًا آخر يعتبر ضعفًا أو حتى خيانة للذات وللشخص الآخر الذي يحبه الآن؛ "إننا نرمي الأشياء التي نريد التخلص منها في مقالب القمامة، هذه المقالب تنمو وتكبر حتى تبلغ السماء، هكذا تفعل أيضًا مقالب الناس الذين يكبرون في السن، لا يزورهم أحد اللهم إلا أشخاص آخرون جرى التخلص منهم بدورهم. إنهم يواصلون محاولة اختلاق ابتسامة وتغذية أمل في داخلهم، لكنهم في واقع الأمر يفرحون برائحة كريهة، رائحة من جرى التخلص منهم"، علاقات يهمّشها الزمن أو علاقات صغيرة في منطقة البين بين التي لا تُظهر جدواها/عدم جدواها، لتظل الدائرة هكذا، العلاقات لا تنتهي وكذلك القمامة "عصية وحدها على الفناء على أي حال مثل الموت".


فتلك الأسرة النموذجية ذات الدخل المادي الذي يبعدهم عن الشوارع الملوّثة بالغبار والقمامة ووضع إجتماعي جيد، تتكوّن من أربعة أفراد؛ طفلان صغيران، وأبْ يُرزق من كتابة الأدب، متزوّجٌ من سيدة طبيبة تُدعى ليدا. عائلة صغيرة وسعيدة بما يكفي -حتى الآن- لم تسلم من تقلبات مشاعر مؤسسها ولا مبالاة سيدتها؛ لم تسلم من ضعفها البشري.


يحبّ ذلك الكاتب عائلته بشكلٍ كبير، لكنّه في الوقت ذاته يحبّ امرأة أخرى تعمل فنّانة لصناعة التماثيل، ترفض الروتين، ذلك الروتين الذي ملّ الأديب من عدم تغييره، دائمًا ما يلجأ الأدب للرمز، يواجه الكاتب روتينية وطغيان رقابة الإتحاد السوفيتي آنذاك بمحاولة خلق علاقة جديدة مع "الحياة" بوضوح وجذرية المحرقة اليهودية التي أقامها هتلر وعاصرها. "العفريتة برتقالية اللون" الزي الرسمي لعمّال النظافة، جعله يواجه ضعفه الخاص/العام؛ بعجزه في التخلّص من أسرته وروتينيتها لما يكنّه لهم من زمن مشترك وتعوّد آدمي/ وعجزه عن التخلّص من قوة هتلر كيهودي عاصر تلك الفترة من الزمن.


لا يستطيع الهرب معها خوفًا من ترك الأطفال وزوجته ولا يمكنه التخلّص من ذلك المتنفس الجديد، يفهم أن أي محاولة لإقرارحقيقة ما ليس سوى "مناورة جيدة من لغة الحمقى، لأنه لا أحد يستطيع تقديم حقائق حتمية وأي شخص يقوم بذلك ليس سوى مصدر لخطر مرتقب". يقف بحياته الواقعية المملة والمتخيلة الحالمة على قمة الضعف البشري الذي لا يستطيع تفضيل/التخلّص من أحدهما على الآخر. يعتبر أن "كُتّل الأفكار المرمية هي الأكثر خطورة بين القمامة كلها، القمامة التي تغرقنا وتهددنا بأنفاس التحلل المنبعثة منها. إنها تندفع من حولنا وتنزلق هابطة منحدرات أرواحنا، والروح التي تلمسها تلك الأفكار تروح وسرعان ما لا يراها أحد حية من جديد". في الوقت الذي يحاول فيه ازاحة كل من يقف في طريق سعادته/أسرته القديمة، ويمضي "كانسًا" الجميع يخاف في الوقت ذاته من أن تحب فتاته آخر، أي يأتي مَن "يكنسه" أيضًا، يعيش كمغترب عن وطنه وحياته.


يقلّدهم الكاتب ويلقي بكل شيء في الفرن ثم يراقب مرتاحًا القمامة تتلوى في النار كما لو أنها تتعذب، يراقب ذوبانها وسط اللهيب المستعر ويصغي إلى فرقعة الزجاج وانفجاره وإلى زئير النار المنتصر" تتغلب النار في تلك الحالة على ضعفه البشري وتستطيع التخلص مما لم يعد مفيد (إذا جاز لنا أن نجزم جيدًا ما المفيد وما هو غير المفيد) بينما يقتله الهروب والحيرة وصعوبة الاختيار.


بينما زوجته تعصرها الحيرة في إشكالية أخرى مقابلة؛ يربط ذهنها بين الموت/الفراق والقمامة، تؤمن بأن الحياة على صلة لا تنفصم بالتنظيف حرفيًا وعلى نحو مجازي، "كانت تتحسر على قذارة العالم الذي لا بد لها من العيش فيه". تحاول هي الأخرى القيام بعمل نظيف في مدينة قذرة بفعل فضلاتها أو ربما مهملة، تشعر بمسئولية مضاعفة بتكدّس الأسرة كلها على عاتقها، مدينة تُرمى داخلها فضلات الآخرين/مشكلاتهم دون حساب أو تقدير.


المفارقة التي يقعا داخلها والتي يكشفها كليما بحزن شديد أن كلاهما أو ربما نحن أيضًا، نتوق إلى تنظيف حياتنا إلى أنه بدلًا من تنظيف أنفسنا في البداية كشرط أساسي، نبدأ بتنظيف من حولنا، وعندما نصل إلى تنظيف أنفسنا نكون قد أضعنا وقتنا في تنظيف العالم حولنا، نحاول أن نتفرد باللقاء مع الله والبشر في مكان "نظيف" لأننا نفهم أن الفردوس قبل أي شيء آخر حالة تشعر الروح فيها بالنظافة. لكننا نهمّش كوننا بشر على الأرض لسنا ملائكة في الجنة ولا يمكننا الهرب من ذلك. فالهروب من الفراغ أو الروتين لا ينتهي. وتظل ثمة بديهية يؤكد عليها كليما للمرة الثالثة خلال روايات مختلفة؛ أن فراغ الروح لا يقبل الإمتلاء. يواصل الملل والروتين نهش كل جديد ولا يشبع من ذلك، وعلينا أن نتقبل كوننا بشر.




"لا قدّيسون ولا ملائكة".. السؤال مرة أخرى: لماذا نرفض ضعفنا؟

من هناك، من حيث انتهينا على تأكيد كليما المستمر بتقبّل أدميتنا، يخوض في كتابة روايته الجديدة "لا قديسون لا ملائكة"، والتي صدرت أيضًا عن دار التنوير في حوالي 292 صفحة. هذه المرة من زاوية سرد أخرى، بعيون إمرأة قد تشبه الوردة الوحيدة التي كانت تتوسط غلاف "حب وقمامة". طبيبة أسنان خمسينية منفصلة عن زوجها المريض، لديها ابنه مراهقة وأم مسنة ترعاهما.


حُلم، لا ندري على وجه التحديد إن كان جاء أثناء النوم بالفعل أم أنه حلمٌ يقظ، لكنها بالتأكيد تمنّت حدوثه واقعيًا. منه تبدأ الرواية لتخطف النظر بقوة؛ تردد السيدة: قتلت زوجي الليلة الماضية، استخدمت مثقب أسنان لثقب جمجمته. انتظرت لأرى حماة تخرج من رأسه، لكن خرج بدلًا منها غراب أسود كبير. جمل قصيرة مقتضبة توضّح الحالة التي تعيشها أو التي وصلت لها تلك الطبيبة وتنطلق بعدها للحديث دون توقّف، يسرد كليما على لسان بطلته حكايات تتحدث فيها عن حياتها وكيف تعيش وكم كانت تحب زوجها، حكايات تتماس أحيانًا مع كثيرين، تحكي كأنها لا تريد أن تتوقف، شفقة كبيرة يمكنك أن تشعر بها عند القراءة عن تلك السيدة التي تريد أي شخص تتحدث معه، تبثق الكلمات من على صدرها.


تدور الطبيبة في فلك حيرة لا تنتهي؛ تكره زوجها الذي خانها مع إمرأة تصغرها وتركها وابنتها، ولم يرجعه سوى مرضه الذي جعل الفتاة الصغيرة تلك تتركه وحيدًا، تتداخل تيمة الرواية الأخرى وتأكيد حيرة كليما، تم كنس البطل وإزاحته عندما قرر أن يكنس حيرته/ماضيه، ولم يتوصّل لشيء! هي أيضًا تعلم بناءٍ على عملها أن الأسنان الجديدة أفضل من تلك التي ظللت تمضغ بها طوال حياتها، والتي بقي منها القليل" لكنّها رغم يقينها وفهمها لا تستطيع أن تتركها. تتساءل: كم تبدو حكاياتنا مثيرة للشفقة حين نعاود النظر إليها، نترنّح في السير على قضبان معلّقة، نتسلّق صخور ونقفز من أعلى جسر، ونحن مربوطين بحبل. وتفهم أنها علينا أن تقبل تلك الحيرة والضعف البشري الذي وقع فيه زوجها. لا أحد يظل نفسه على كل حال، بل يصبح كائنًا آخر، من يريد أن يكونه ربما، أو على حد قول كارل تشابيك: يعيش البشر حياة واحدة فقط من الحيوات الكثيرة الممكنة وغالبًا ما تكون الأتعس من بينها.


على النقيض يأخذ الحوار سياق يظهر البيت قبل انفصال الزوج بأنه "لم يكن سوى مكانًا للنواح والأسى"، فالأم متقلبة المزاج، شرهة في تناول الخمور، تنسى إبتسامتها في الخارج، وهو ما لم يكن لرجل تقبّله.


بينما يجلس الرجل الآن على كرسي متحرك كـ"إنسان مسكين وحيد يعاني من النهاية ويخافها"، مثل الجميع لكن عجزه الواضح يرسم صورة الوحدة والضعف بشكل أكبر وأكثر وضوحًا. ربما يمكنها وغيرها "غسل كل هذا القرف، ضعفها وذنوبها الحقيقية والمتخيلة" فقط بالتسامح مع فعله أو تقبّل ضعفها الشخصي بالعلاقة التي أقامتها مع جون الصغير الذي كان تلميذًا لزوجها، مارَس الجنس معها بكلمات حب بسيطة لكنه كل هذا، لم يجعلها تشعر بالإنتماء إليه ولم يخرجها من حيرتها على كل حال؛ هم بالنسبة لها لا زالوا "يجدون متعة في العيش بعالم خيالي، حتى الآن لا شيء في الحياة الحقيقية يمثّل لهم أي عبء، وحتى إن كان ثمة عبء ما زالت لديهم القوة الكافية للتعامل معه"، بيما هي تريد الواقع، تريد علاقة ناضجة كزوجها التي لا تستطيع الرجوع له ولا تفهم لماذا لا تنساه. في النهاية تأكلها الحيرة والضعف وحدها؛ الحياة حزينة تنتهي القصص بالجميع -في الغالب- وحدهم وحيدين وضعفاء.


ابنتها الأخرى تبدو ضعفية لكونها تشعر بكل شيء لأقصى مدى بينما لا تستوعب جدوى اللامبالاة بالأشياء وأننا "يجب أن نأخذ الناس كما هم بكل عيوبهم وأنانيتهم" لنتقبّل بشريتهم علينا أن نصبر. تستمع لأحد رجال الدين: الناس يتوقعوا أن الأشياء يمكنها أن تصبح جيدة خلال أيام قليلة، لكن الأكثر فهمًا يعرفون جيدًا أن الأمر يحتاج أكثر من ذلك؛ لسنا قديسون ولا ملائكة. بينما داخل كل ذلك الصراع يشير أحدهم أنه ربما كان عليه التخلّص من أشياء كثيرة في حياته لكن كليما يؤكد قدسية قناعة الأثيره على لسانه هو الآخر: لم أدّعي أني قديس أو راهب، لقد استسلمت للحظة فحسب وأعلم أنني تصرفت بضعف. ينتهي الأمر بالجميع "بشرًا"، تسرد الرواية حكايات أخرى مليئة "بالضعف".


ثمة رسالة أخلاقية تقدّم في السياق عن أناس لم يعرفوا كيف يعيشوا بما لديهما، يريدون شيئًا ما آخر غير الذي قدمته لهم الحياة، يفقتقرون للتواضع.


لا يبحث إيفان كليما عن الكمال أو الطوباوية الآدمية، بل يمكننا أن نجزم أنه يرفضهم ويعارضهم؛ يسير برواياته ليحكي قصص شديدة العادية والتماس بغالبية البشر لتكننا تتقاطع بشكل جذري مع اختياراتهم وضعفهم لا لتدينه وتعامله بأبويّة وفوقية لكنها تحكيه، تنسج خيوطها حوله لتجعله أكثر سلالة وتقبّل لآدميتنا ومجهول مصائرنا الذي نخافه ونتخبّط قبل معرفة صحته وجدواه. القصة لا تنتهي نرفض الأشياء ولا نستطيع أن نتركها، نحب الأشياء التي لا نستطيع الحصول عليها إلى أن ذلك "الضعف" لا يمكنه أن يمنعنا من الحياة.


في أحد حواراته يقول كليما: لا تهرب من أي مشاكل في حياتك، في المجتمع أو السياسة. المشاكل مهمة جدًا للكتابة وغيرها. زوجة كليما في "حب وقمامة" طبيبة، بطلة "لا قديسون لا ملائكة" طبيبة. زوجة كليما في الواقع طبيبة أيضًا. ثمة أمر واضح: لا يسعى للتأليف، لا يهرب من مشاكله الحقيقية مع الحياة. الرجل يحكي عن نفسه، عن ضعفه ومن ينتمي إليهم.


تعليقات


bottom of page