لطيفة الزيات تروي قصة بدايات حركة الترجمة في مصر
- Hossam Elkholy
- 21 يونيو 2018
- 6 دقائق قراءة

"ألترا صوت" أصدر المركز القومي المصري للترجمة، الدراسة الأديبة التي أنجزتها الدكتورة الراحلة لطيفة الزيات، وذلك بالتزامن مع مرور ذكراها الـ 94 بعنوان "حركة الترجمة الأدبية من الإنجليزية إلى العربية في مصر بين 1882 – 1925" التي حصلت بها على الدكتوراة من جامعة القاهرة في عام 1957، من تحرير الناقد والمترجم خيري دومة أستاذ الأدب العربي بالجامعة، والذي ظل يبحث عن تلك الرسالة حبيسة الأدراج لسنوات طوال حتى أن هناك معلومات لم يتمكن المحقق من قراءتها، حتى وجدها بكلية الآداب قسم الصحافة، كان دومة يرى أن "في تلك الدراسة قيم باقية تُبرر نشرها الآن، بالرغم من مرور وقت طويل على كتابتها، منها ما رسمته من أساس تاريخي واجتماعي وثقافي لتطور حركة الترجمة، وبالتالي كان معها حركة الأدب العربي الحديث، كما قدمت ترجمات تعتبر مجهولة بالنسبة لنا". حيث يمكن اعتبارها بمثابة دراسة للثقافة العربية عمومًا وليس للأدب فقط؛ فكانت هذه الدراسة "تحرث أرضًا بِكر، وتتبين خطوطًا أولية غير واضحة في حركة الثقافة العربية الحديثة، وبشكل خاص في حركة الأدب العربي الحديث وتحوّلاته"، والتي ظهرت مع ظهور طبقة من المتعليمين تعليمًا غربي على وجه التحديد.
وولدت الدكتورة لطيفة عبد السلام الزيات ولدت في يوم 8 أغسطس آب عام 1923، ومع التدرج التعليمي في مسيرتها كطالبة أصبحت في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة القاهرة، وحين وصلت للفرقة الرابعة من دراستها الجامعية تم انتخابها كعضوة في سكرتارية اللجنة الوطنية العليا للطلبة؛ وشاركت في تنظيم المظاهرات الطلابية في 9 فبراير شباط -فيما يعرف بحادثة فتح كوبري عباس الشهيرة التي خلفت العديد من الجرحى والقتلى- كما شاركت في الإضراب الطلابي العام ضد سلطات الاحتلال البريطاني في 21 فبراير 1946. لكنها في النهاية حصلت على درجة الليسانس في عام 1946، ومن هنا بدأ اهتمامها الواضح ومشاركتها بالعمل الوطني الديموقراطي الذي بدأ أساسًا في بداية الأربعينيات، وأصبحت عضو في منظمة إيسكرا بينما سُجنَت للمرة الأولى في تاريخها عام 1949، أي وهي في سن الـ26، في قضية الإنضمام لتنظيم شيوعي.
خرجت من السجن وحصلت على دبلوم معهد الصحافة -نواة كلية الإعلام في مصر- في عام 1952، وعلى درجة الدكتوراه من قسم التحرير والترجمة والصحافة بكلية الآداب، جامعة القاهرة بتقدير جيد جدًا وقدمت هذه الرسالة المنوط بها هذا التقرير؛ المقدمة والمجازة منذ عام يونيو 1957، والتي تعتبر واحدة من أهم الدراسات التي قدمتها أحد روّاد النساء الذين صنعن الحراك الكبير بخصوص حقوق المرأة من خلال معسكرها اليساري الذي لم تتركه قط حتى وفاتها عام 1996 بعد قضاء رحلة نضالية كبيرة تخللها زيجتين وسنوات من العمل الذي لا ينتهي.
حركة الترجمة الأدبية المصرية في مطلع القرن.. أوّل الغيث
كان تأخر مستوى التعليم في مصر مع بداية الإحتلال منذ الربع الأخير من القرن الثامن عشر لا سيما سببًا أساسيًا في تأخر حركة الترجمة أيضًا، فأثناء الإحتلال حدّد أحد رجال الإستعمار اللورد كرومر أن "تحديد مستوى موحّد متدني من التعليم هو الحل الوحيد الذي يمكنه الوقوف أمام القيادات الشعبية التي تثير الشعب ضد الحكام"، فقام بإعاقة المقومات التي تؤدي بالشباب إلى الإلتحاق بالجامعة أو التعليم الحديث عمومًا بالإضافة إلى نشر الكتاتيب البدائية، كما لم يكن تراجع مستوى التعليم قاصر على كمية المدارس وعددها، بل تحوّلت التعليم لمجرد معامل تخرّج موظفين للحكومة المصرية، مدربون على الطاعة العمياء، ويحفظ أدوارهم كما يحفظوا موادهم التعليمية "كالبغبغاء"، لينفضوها في ورقة الإجابة ويرموها بعد ذلك خلف ظهورهم، ولا يدركوا لها قيمة في ذاتها، حيث كان مقياس النجاح في الوظيفة هو الخضوع وتنفيذ الأوامر، بالتالي يمكن أن نعتبر أن تاريخ الأدب العربي وكذلك الرواية والقصة القصيرة في تلك الفترة ليس إلّا تاريخ من النفوذ الأجنبي، كان الأدب يتأرجح بين كتابات لا حياة فيها وبين التقليد للغرب وترجماته.
أيضًا مرّت ترجمة القصص عن الإنجليزية في فترة البحث أي من عام 1882 إلى عام 1925 في أربع مراحل، فكانت الفترة من البداية حتى 1899 مرحلة نشأة عادية أعقبتها فترة ازدهار نسبي في عام 1900 - 1909 ثم فترة خمول وقتي من 1910 - 1919 ثم الفترة الأخيرة التي تميزت بالإزدهار الضخم فسُجل في الفترة القصيرة من 1920 حتى 1925 توسعًا لا عهد لمصر به من قبل، وتحول الأسلوب على مر الفترات من نتيجة عدم وجود أسلوب واحد يمكنهم فعله فمنهم من يستخدم العربية الفصحى المتكلفة ومنهم من يستخدم العامية الركيكة، وتحول موضوع الروايات من المواضيع المفتعلة (episodic) حيث ترص الأحداث جنبًا إلى جنب بقصد التسلية، ونفتقد هنا الوحدة في معالجة الموضوع ووحدة الجو وتحول وظلت مرتبطة بالصحافة واعتمدت عليها كليًا وتحول إلى نقل الروايات القوية ذات الحبكة القوية، حيث لم يكن الاعتماد على الإنجليزية فقط، وكان إلى جانب الأدب الإنجليزي تترجم مختارات من روائع الأدب الروسي.
والجدير بالذكر أن تلك الترجمات في مصر بدأت أساسًا باللغة العامية؛ حيث كان المترجمون يشعروا أنّ في ذلك "تبسيط يلائم الجمهور العام" في مصر، بينما بدأ التطور يأخذ منحى جديد، بالتركيز على أسلوب جديد حيث لم تعد الرواية تهدف إلى كشف المجتمع لنفسه وإنما انتقلت الأهمية من المجتمع إلى الفرد، كما ظهر لون جديد أوجد أدب الرومانس؛ تلك الرواية الخفيفة التي لا تهدف سوى للتسلية وليس لها علاقة بالواقعية في تطبيق واضح لمقولة أرسطو التي تقول "إن أسوأ العقد هي التي تقوم على الأحداث الكثيرة". ثم اشتهر القصص الغرامي بكثرة بين الجمهور إلى جانب القصص الإجتماعي الذي يميل إلى الوعظ والإرشاد وتقديم الحكم.
الأدب وفروعه
ومن ترجمة الأدب عرفت مصر مختلف الفنون الأخرى؛ فمثلًا تبدأ قصة التمثيل بالتاجر اللبناني مارون النقاش الذي رحل إلى أوروبا وتأثر بفن التمثيل الإيطالي، ثم كتب عدة مسرحيات بالعربية إلى جانب ما ترجم منها عن الفرنسية والإيطالية، وحاول إدخالها إلى مصر، كما أنشأ المخرج سليمان القرداحي مسرحًا خاصًا به وافتتح موسمه الجديد بتقديم مسرحية الصراف المنتقم، المعربة عن المسرحية العالمية "تاجر البندقية" للكاتب الإنجليزي ويليام شكسير، في حين كان تكوين فرقة جورج أبيض هي نقطة التحول في تاريخ التمثيل المصري في تلك الفترة، حيث حاول الإلتزام بالنص الأجنبي دون التبسيط والإخلال الذي كان يتعامل بها غير، فاستطاع استقطاب مثقفي تلك الفترة إلى المسرح بعد هجره، إلى أن جاءت ثورة 1919 المسرح المصري هزة عنيفة وطورت إتجاهه إلى المسرحية وجعلتها أكثر ثورية وإرتباطًا بالمجتمع كما جعلت الأدب أيضًا، وذلك بخلاف ما فعله المترجمين في أولى فتراتهم؛ فقد مسخوا الأثر الفني المترجم، وأهدروا وحدته الفنية في محاولتهم لتبسيطه وصبغه بصبغة محلية، وذلك بغية تقريبه إلى الجمهور ليصبح فارغ بلا معنى واضح وغير مؤثر.
واقتصرت الترجمة الأدبية على ترجمة المسرحية والقصص والأدب الذي يقوم على أساسه فن الرواية وهو أقرب ألوان الأدب للشعوب، ولما بدأ الوعي يتبلور إتسم صراع الشعب ضد الإستعمار بجدّية صبغت جميع مناحي الحياة وإستطاعت مصر تقديم أنواع جديدة شيئًا فشيئًا مثل الشعر والنثر الفني اللا روائي الذي كان يهتم به أرستقراطيي البلاد، ثم تطور مع الوقت أيضًا.
كما تأثرت حركة الترجمة الأدبية كذلك بالكفاح بين القديم والجديد، لا في مدى خمولها وازدهارها فحسب، بل في إتجاهها وفي طريق الترجمة ذاتها، من حيث العرض والأسلوب، وكان لها دور لا ينكر في دفع عجلة التطور إلى الأمام فقد أرسلت في عقل القاريء العادي أفكارًا جديدة وثقافة جديدة، وكانت بمثابة نافذة يطل منها الفرد العادي الجاهل للغات الأوروبية على العالم المتدين، حيث كانت العامة لا تستطيع التعبير عن ما يدور بخلدها من تعنت السلطة والاستعباد السياسي والاقتصادي والإجتماعي التي يمارسه الإحتلال كما يمارسه الملك.
وكان "وجود الصحافة الشعبية المتحررة من الربقة الرسمية عنصرًا أساسيًا من العناصر اللازمة لبدء حركة الترجمة الأدبية"، فإن الإرتباط بين الصحافة والقصص لم يتوثّق مثل ما توثق إبتداءً من مطلع القرن العشرين، فالصحافة عادة أداة شعبية تعتمد في وجودها على محاولة توسيع دائرة جمهورها وعلى تنوع الجمهور وعلى اجتذاب دائرة أكبر من القراء وهدفها هو كسب كل مُلم بالقراءة، ولمّا كان هناك طلب حقيقي على قراءة الأدب، كان تطور عرضه خلال الصحف والمجلات يسير في خط واحد بمحاذاة تطور الصحافة أيضًا بدون تعريب مخل له، وذلك "لأن الأدب الممتاز يحتاج في ترجمته إلى جهد وإمعان واستقصاء وهو يقوم على فكرة وعلى دراسة النفس ومشكلاتها ولا يليق للتلخيص ولا يستدعي التبديل والتحوير".
إذن كان طريق الترجمة في تلك الحقبة على حد قول لطيفة الزيات "شديد الوعورة في بادئ الأمر"، حيث تقدمت في ظلّه حركة الترجمة الأدبية بمنتهى الحذر، وفي حدود ضيقة ضيقة للغاية ثم استوى الطريق في بداية القرن العشرين وتغير الوضع في طريق انتصار الثقافة، فكان من شأن العنت الاستعماري الذي أصاب الاقتصاد والسياسة في مصر، والذي استمر بصور متفاوتة طيلة فترة البحث أن ترك أثره في إضعاف الإنتاج الادبي عامة وحركة الترجمة الأدبية بصفة خاصة، وذلك لإرتباطها ارتباط وثيق بالصحافة أينما كانت، وهي اللسان المعبّر للحركة الوطنية، والتي هي موضع تنكيل من الاستعمار، فقد أوقفت فترة الإرهاب الإستعماري الذي ساد مصر أثناء التطور التصاعدي لحركة الترجمة.
وإجمالًا فإن حركة الترجمة الأدبية التي قامت في مصر في تلك الفترة تطورت فقط لتمثّل إحتياجات وإمكانيات الطبقة المتوسطة المتعلمة تعليمًا حديثًا والجماهير الشعبية التي إلتفت حولها خير تمثيل كما مثلت أيضًا ثقافة المترجمين الذي يمثلون جزءًا من العقل الجمعي المصري، وهم الذين استطاعوا السير بخطوات ثابتة إلى إدخال كل تلك العناصر الأدبية والفنية إلى الداخل المصري، بالرغم من كل الصعوبات التي واجهتهم في البداية وعلى مدار سنوات، "وقد حققت الحركة ما يمكن أن تحققه في حدود إمكانيات وإحتياجات الرأي العام المصري في هذه المرحلة، كما تسببت في ظهور القوالب الجديدة من رواية وقصة قصيرة إلى المسرحية في الداخل المصري"، فكانت تلك الفترة مسار البحث (1882 – 1925) هي البداية الحقيقة الواضحة لعالم الترجمة، -من الإنجليزية إلى العربية بالتحديد- والذي تسلّم رايته بعد ذلك علماء الفترة التي تلتها أمثال طه حسين وغيره مع توسع أفقهم في عدم التركيز على الإنجليزية فقط، لتظل تلك الشعلة التي يسلمها جيل إلى يد جيل آخر كنقطة نور تساعد على تطور التعليم الثقافة ولا سيما الإندماج سواء بين أفراد الوطن الواحد أو العالم أجمع.
Comments