top of page

aboutMe

Egyptian writer and photographer, graduated from the Faculty of Media and Communication Arts, Radio and Television Department, interested in writing in philosophy, literature and film criticism.

أحمر لارنج.. شارل عقل المهرّج المجدّد

  • صورة الكاتب: Hossam Elkholy
    Hossam Elkholy
  • 15 أغسطس 2020
  • 7 دقائق قراءة









ثمة هوس عالمي يشغل عقول وأفكار الكتّاب ومنتجي الفنون عمومًا يتجلّى الآن على ما يبدو بشكل أكثر حضورًا وقتامة من أي وقتٍ مضى في تساؤل تأسيسي مركّب: كيف تبدو قيمة المنتَج الفني أمام صانعُه وجمهوره بتجاهل أعدادهم القليلة أو الكثيرة؟ ثم ما هي قدر الموهبة التي يحملها الفنان الصانع للتأكد من وجاهة قرار الاستمرارية كمحترف متفرغ أو الاكتفاء فقط بممارسة الفن كلُعبة مسلّية في أوقات الفراغ؟ هل يعبث بعُمره وإمكاناته التي قد لا يُستبعد كونها متواضعة "ميديويكر" متوسطة أو حتى تالفة تصلح للتذوق لا لإنتاج أشياء أصيلة بالتالي يمكن التغاضي عن تأثيرها المحدود إن وُجد أم أنها تحفر طريق وعرة ولا عليها أن تنشغل بعدم الالتفات الحالي لتقديرها فسوف تؤتي ثمارها مع الزمن لتخلّد أسلوبية صاحبها بعد ذلك ومنهجه في إنتاج النص/ المقطوعة/ الفيلم؟ تلك حيرة قديمة تكاثفت على الجميع تلقائيًا نتيجة انفتاح لم يُسبق لمساحات أوجدتها مواقع التواصل المختلفة جعلت الإنتاج الفني (المكتوب والمسموع والمصور) أقل بيروقراطية وأوسع صدرًا وأكثر تقبّلًا للجميع فانسحبت بديهية ذلك الحراك لمساحات تجريبية متحررة جعلتنا نرى من خلالها جرأة المستعد والمتطفل على القدر ذاته من حسن الاستقبال بينما لم تستطع أو لنقل لازمت قلق ورهبة التساؤل حول مدى كفاءة الموهبة أمام سيولة الإنتاج وسهولة عرضه تلك. على ما يبدو يمكننا من هذا المنطلق الحديث حول رواية "أحمر لارنج" الصادرة حديثًا عن دار الكرمة للنشر، وإلى جانبها نُمدّد سرديتنا للإشارة إلى تجربة كاتبها التي تحمل في سياقها الأشمل أسباب وجيهة للاختيار الحر غير العشوائي والتجريب الطموح والمقامرة المغرية.





في مطلع الألفية التي نعيشها كان هناك وجود موسيقي هامشي لمجموعة تُنتِج ما يعرف بـ"موسيقى الجاز الإنطباعية" كموسيقى مصرية ما بعد حداثية لمجموعة من التجربيين بعضهم من غير المتخصصين وآخرين من ذوي المرجعيات الأكاديمية، ضاعت معظم أعمالهم أثناء انتقال الموسيقى من "الأنالوج" التماثلي إلى "الديجيتال" الرقمي. تحوّل يبدو عاديًا أو غير مفهوم كيفيته لغير المتخصص لكنه كان جذريًا في مستقبل الإنتاج الموسيقي وطرق التوزيع التقليدية؛ أصبح يطلب مثلًا من فرقة موسيقية محلية كانت تنتج ما يحلو لها لاستهلاك جمهور شديد الصغر تعرفه وتعرف ذوقه أن تنتقل -بالديجيتال- إلى جمهور أوسع غير ممركز مجهول الهوية ومتنوع الذوق يحكم على مدى مشروعيتها وكفاءتها فقط بالنظر للمنتج النهائي والحكم عليه ومن خلاله فقط دون رحمة أو إدراك للسياق والإمكانيات التي تحركها وتتحكم في عوامل كتوقيت التدريب ومدى التفرّغ التي تحتاجه الموهبة، واستقطاب "أسطوات" المجال لوزن الكفة مع الهواة داخل الفرقة الواحدة وغير ذلك.


بعد جولة ميدانية في أداء صنّاع تلك الموسيقى الانطباعية ما بعد الحداثية، دوّن الكاتب السكندري المصري شارل عقل في روايته "نصوص مجمعة من الأيقونات الموسيقية لتلك الموجة الطليعية وما واجهه أصحابها من صعوبات إبداعية وإجتماعية وأحيانًا بيولوجية" ليحكي من خلاله عن هؤلاء الذين ابتلعتهم ظرفية تاريخية تتجاوز قدرتهم على التكيُّف والتلائم، انتقلت بفجوة زمنية مباغتة ليصبح "الوله بموسيقي أو فرقة ما، التي كانت تشكّل الهوية، بدأت تندر في حقبة الإنترنت نتيجة لتشعّب المصادر وفيض الفرق والمشاريع الموسيقية الجديدة، الجديرة بالمتابعة والآخذة في الزيادة، أصبحت فترة الانبهار أقصر، والتحولات أسرع، والبحث والتجميع والقراءة أكثر شمولية وسطحية، والارتباط بفرقة أو فنان أهدأ وأفتر والتجميع أكثر طمعًا وطموحًا، دون دراية للوقت المستلزم لاستهلاك تلك الوسائط، وبالانبهار الكلابي سريع التشتت صوب كل جديد أو غريب"1. كل ذلك في حبكة سردية يمكن اعتبارها روائية بالرغم من شطحاتها التجريبية في طريقة كتابتها غير السائدة التي جعلتها تسحب رمزيتها لتشمل صنّاع الموسيقى والفنون عمومًا.


الغوص داخل مشاعر العشوائية والخوف والتردد والجرأة الخادعة أو المثمرة التي تملأ مخيال التاريخ الثقافي بسرديات وقصص مختلفة، اكتشفت ذاتها كاملة في الرواية داخل مشاعر شبابية بِكر لفترات يحاول فيها الإنسان إعادة فهم ذاته وتشكيلها: سردية تبدأ من لحظة انتهاء علاقة عاطفية لم يكن يدرك صاحبها أنه غير مستعد لها، مع أصدقاء جميعهم على مشارف رجولتهم وتحمل مسئولية لم يحدث بعد، يجمعهم انعدام ثقة في حجم الموهبة التي تعطيهم ضمانة اعتبارهم موسيقيين حقيقيين ومساحة كافية من الوقت للتجربة، والتأكد من صحة كل الأشياء يدعمه حب فطري للإنتاج الفني الموسيقي. كل ذلك كان قادر على إنتاج مشروع موسيقي بات يهدف "أستاذية العالم" أو ربما السخرية منه ومن أصحابه داخل قصة روائية محكمة كـ"أحمر لارنج".

على نحو مجازي وفعلي يختار الأبطال/ الموسيقيون أن يظلوا على الهامش؛ تجد اختياراتهم للآلات التي يعزفونها غير رئيسية أو غير مشهورة أساسًا ربما -في سياقهم تحديدًا- للتأكيد على رمزية مساحات ذكوريتهم الجريحة داخليًا غير المكتملة وغير المدركة تمامًا لأنها لم تثبت نفسها بعد أو ربما كما يبرر البطل ذلك "لأنني أكره الخيلاء والاستعراض ناسبني ]آلة [ الأكسليفون، فهو على عكس جميع الآلات التي تشعر حين تعزفها بأنك خاص ومتألق... ينفرد الأكسليفون بأكثر الهيئات الموسيقية مللًا فحتى أمهر عازفيه، سوف يبدو في أكثر حالاته وإبداعه مثل الموظف لا يفعل شيء سوى الجلوس"2.


يقسّم الكتاب -باعتباره موسيقيًا- إلى مقطوعات لا فصول، عشرة مقطوعات منفصلة متصلة سوف تستمع خلالهم لأسماء تخييلية مربكة توقفك في كل مرة للتأكد من صحتها قد تكون المرة الأولى والأخيرة التي تقابلها "القائل نعمًا وهلمّا وتعريشة الذهبي والجناس التام" وأشياء أكثر غرابة تحتوي العبث والسخرية المناسبة والأكثر تلائم لتخبط أصحابها أبطال الفرقة الموسيقية الحقيقية المتخيلة في آن، والتي يمكن فهم سياقهم من وصف الراوي الذي كان "محل لقاء الأصدقاء بغير ميعاد والمأوى لكل من بلا مأوى ومقصد كل خالي الذهن أو الوقت أو العمل"3 بكل رحابة صدره وهو يصف صديقيه الأبطال الأكثر تأثيرًا معه أنهما "بقدر ما كانت خطورة القائل تكمن في تعامله بالمنطق مع كل الاقتراحات الهوجاء وقدرته على الحجاج ببلاغة لتسهيل تنفيذ فكرة غبية، ممهدًا الطريق بالمنطق والحجة، بقدر ما كان هلمّا هو وقود التجربة، لا يضيع الوقت في الحذلقة، أكثرنا عملية بلا شك، يكره كل ما يجبره على التأمل والتريث يصيبه الانتظار بالتوتر والتردد بالغيظ، ولا يعُد التكتيك ووزن الأمور سوى حنجلة ولا يرى في الأزمات النفسية والتجريب والتخبط سوى علوقية مقنّعة، مندفع كقطار، قدمين بلا رأس، سيارته امتداد طبيعي له، واندفاعه يلخص فلسفته في الاستهانة بالتفكير والانخراط الأعمى في أي تجربة، بسرعة وجدية وعمق وللنهاية. وبينما يكون أحدنا على وشك مناقشة فكرة، يحمله هلمّا حملًا على التنفيذ، وبينما تتدريب مجموعة صغيرة معًا يدفعهم دفعًا لتشكيل فرقة موسيقية ولإنتاج أول ألبوم"4.



لذلك كاتفاق ضمني يبدو تقبّلهم وروايتهم التي تتخذهم كأبطال في المشي على خطى أحدهم الذي لديه ذائقة فنية "تتسع لكل شيء، تستوعب كل شيء وتقدر كل شيء". يصبح في نظرة أكثر رحابة وسعة صدر لهؤلاء في سياق إمكانيتهم وتخبطهم، المجربين الأوائل الذين يحاولون إثبات ذواتهم بالحكي حول كل الأشياء دفعة واحدة حتى ينقطع نفسهم تارة لما داخلهم من أشياء تحتاج التعبير عنها لإثبات قدرة صاحبها وتارة لاختلاق لفت الانتباه لهم كغرباء يغرسوا أقدامهم في المشهد الفني كصنّاع وأصحاب موهبة وأخيرًا التسليم باحتمالية عدم فهم بعض الأشياء رغم الاستمتاع الكامل بها.


وفق تجربة موسيقيينا وزاوية تناولهم الروائي ربما تتساءل حول حتمية فشل التجارب الجديدة عمومًا وولادتها الميتة، هي وما يمكن أن تشكّله، ما يعني في حالتنا تجربة إنتاجهم الموسيقي المبتسر دون قصد أو ذنب أو مساعدة ووضع صحي يمكّن من تشكّيل الفنان كما ينبغي. هذه تعجيزات إذا كانت مُدركة بالضرورة لغالبية منتجي الفنون في شتى مجالاتهم يدّعي كثيرون محوريتها في كل بقاع الأرض وعدم اقتصارها محليًا أو إقليميًا، لكن الكاتب يبروز معضلات متجاوزة لأبطاله هنا بفجاجة يكثّفها تواجدهم كأبناء لعالم الثالث قليل التواجد فنيًا لأسباب كتلك التي تخص محدودية حركتهم ونظرة مجتمعهم لهم وشبه انعدام للفرص المتاحة أمامهم لأنه "لكي تكون موسيقيًا متخصص ليس لديك كثير من الاختيار: تصبح عازف في فرقة شعبية تلتقط رزقها من الموالد والأفراح لجمهور ليس غرضه تقصّي المواهب أو العمل في فرقة كلاسيكية أوركسترالية وهو اختيار محدود جدًا لندرة الفرق التي تتلقى أجورًا في المنطقة العربية أو ترضى بعمل ذي ربح معقول مستغنيًا عن تحقيق الذات أو الاعتراف الجماهيري"5.


تجربة "أحمر لارنج" خرجت من رحم تجربة شخصية أساسًا للكاتب الذي عمل في فترة من الوقت كمبرمج موسيقي ثم مدير لمسرح الجنينة في مصر، كمنتج ومسوّق للموسيقى لفترة أهّلته لمعايشة أبطال غالبًا ما استوحى منهم روايته المخلوقة من تفاعله الشخصي تمامًا والتي لم تكن المرة الأولى في سحب مساحة التفاعل الشخصي إلى الكتابة الفنية. فعمومًا يمكننا من خلال شارل عقل وتجربته الخوض التأكيد على فكرة الكتابات التي تبدأ من مساحة شخصية معايشة؛ بدأ من المدونات ككثيرين ثم قدّم فيلم قصير موجود على موقع "يوتيوب" تحت عنوان "لمبة نيون"6 ثم انتقل دون مقدمات إلى الكتابة الأدبية الشخصية التي ربما بعكس تعقيدات يحكي عنها كل كتّاب التلفزيون والسينما الجدد وما يواجهونه من بيروقراطية وتدخلات خانقة كانت على أقل تقدير إن لم ترفض ستحد من هذا الجنون الجامح والتهريج المبالغ في تجريبت تسمح له رواياته الشخصية الحرة بهذا الكم من التهريج والتجريب الحر لتقديم أفكاره ه التي تعطي إحساس طاغي بعدم افتعال الظرف والإضحاك ربما فقط لتلك المعايشة الشخصية التي تبصّره أكثر بسقف وحدود شخصياته.


في أواخر عام 2017 تقريبًا كنتُ داخل مكتبة دار الكتب خان التي صدر عنها كتابه الأول: غذاء للقبطي. ضمن سلسلة بلا ضفاف التي كانت معنية بنشر التجارب الأدبية الخارجة عن التصنيفات المتعارف عليها في مختلف الأشكال: قصة ورواية وشعر ومقال. الكتاب يحكي قصة رحلته الذاتية داخل المطبخ القبطي وأكلاته شديدة الخصوصية. كانت فكرة تبدو لطيفة، نوعًا ما جذّابة، إلى جانب حجم الكتاب الصغير وشكله الجديد وفكرة سحب المطبخ وتناوله بخيال سوسيولوجي أدبي داخل العالم المسيحي الذي لم يقدّر لي أن أعيشه أو أسمع عنه رغم قربه الدائم. ذلك جعله إجمالًا يبدو كوجبة غير دسمة خفيفة الظل، التهمته في جلسة واحدة، وهو ما حدث مع "أحمر لارنج" أيضًا، بينما بعد الأخير كنت أكثر يقينًا من أهمية تجربة صاحبها المجدد المهرج "خفيف الظل".


بات التساؤل الأكثر إلحاحًا ضمن السياق الأشمل لتلك التجربة: هل يمكن التأسيس عليها ومن خلالها أم تجاهلها ونبذ تهريجها الفج و"قلشاتها" شديدة المعاصرة التي قد تعجّل موتها؟ أجابت تجربة "أحمر لارنج" وأثبتت شيء مركب شديدة الأهمية.



الجانب الأساسي المستمد من "أحمر لارنج" بالتحديد كان التأكيد على تجربة صاحبها ليس كموهوب فحسب قدر امتلاكه لكثير من الثقة والجرأة التي تجعله يتحرك بثبات كيفي وبطء نسبي داخل مساحات تتداخل خلالها التجربة الشخصية بالتخييل الروائي لإخراج منتج نهائي ممتع مجهول التصنيف غير معتمد على وصفات كتابية وأفكار مضمونة النجاح لجمهور لا يمل التكرار، لتصبح سببًا في إعادة النظر مرة أخرى لمساحات تجريب قد تجد فرصتها في سرديات كهذه التي تنطلق من شخصيات أصحابها مثقلة بخيال أدبي أو سينمائي في قولبة الأفكار مرة أخرى. تجارب جديدة تذكرنا بتجربة مثل عادل أسعد الميري تحديدًا الذي تحرك في كل أعماله تقريبًا من مساحات احتكاكه الشخصي بالموضوعات، وإن كان الأخير ككثيرين واجهته صعوبات وأحيانًا رفض مع كل مساحة تجريبية تخصه وتجاهل الإشادة النقدية فلا مناص من تمنياتنا أن تتغير الأمر مع تغير الزمن وتتحرك دور النشر على اختلافها أكثر وأكثر للتفكير مرة أخرى في كل جديد ومربك يُعرض عليهم أو يفكروا في انتاجه. هذه التجريبية التي لا تُطلب في ذاتها والتي يفرضها اختلاف الزمن والملل أحيانًا، والتي قد تفشل لدى البعض أو ربما لن تجد نجاحها المرجو مع من نجحوا فيها قبل ذلك ستظل أساسًا جديرة بالمقامرة والمجازفة التي تعطي طَعمًا آخر في نجاحها أو عدم توفيقها وتؤسس طوال الوقت لاستقطاب جمهور مختلف وجديد ما يبشّر بفوز الجميع في تحقّقه.



نُشر في مجلة مرايا

هوامش:


1: يراجع الكتاب صفحة 170

2: يراجع الكتاب صفحة 69

3: يراجع الكتاب صفحة 165

4: يراجع الكتاب صفحة 103

5: يراجع الكتاب صفحة 47

6: فيلم "لمبة نيون". إنتاج عام 2013. المؤلف: شارل عقل. المخرج: عماد ماهر.

https://www.youtube.com/watch?v=tgn-q9rQOF4&list=LL9VLLz01X-sWf03G0LR3CaA&index=4&t=45s

 
 
 

Comments


bottom of page