رشيد.. البراءة كإدانة سياسية
- Hossam Elkholy

- 30 مايو 2023
- 5 دقيقة قراءة

"ليس لي أي فكر سياسي قط، لأني رجل نوتيّ لا أعرف من السياسة أصلٌ ولا فرع، لا سيما وأنا في أول إدراكي وبلوغي، ولم أهتم قط في حياتي كلها إلّا بأمر والدي وخطيبتي" هكذا قال أدمون أو الكونت بطل رواية الكونت دي مونت كريستو في حديثه إلى دي فيلفور أثناء اتهامه وسجنه ظلمًا في اليوم ذاته الذي كانت فيه خطبته. في عام 1815 كان في إحدى الجزر الصغيرة نابليون بونابرت المنفي بعد أن كان يحكم الأرض تقربيًا بينما في فرنسا كانت عائلة البوربون التي تحكم وتكرهه أشد الكرة، تعيد العرش إلى لويس الثامن عشر الذي خلعت الثورة عائلته، كان ثمة من يحاول أن يخطط لعودة نابليون والانتصار على العائلة المسيطرة ومن خلالها، وربما يمكن قصّ حكاية الكونت دي مونت كريستو كمجاز عن واقع سياسي وثقافي سيستمر منذ صدور الرواية حتى الآن، مع ترجمتها عشرات المرات إلى لغات مختلفة كان آخرها اقتباس المسلسل المصري "رشيد". وما يمكن أن يعنيه هذا الاقتباس في اللحظة الحالية ثقافيًا وسياسيًا.
موسم درامي رمضاني واسع اقترب من نهايته، شاهدنا فيه للمرة الأولى الملفتة هذا التنوع والتباين الشديد في عدد ونوع المسلسلات عمومًا، كان مساحة للمسلسلات النصف موسم (15 حلقة)، أوجد حالة تباين في الآراء والمتابعة، من الأعمال الدينية التي أثارت جدالًا في "رسالة الإمام" إلى التي تصدرتها قضايا نسائية في عدد ليس قليل منها (تحت الوصاية/ ستهم/ عملة ناردرة/ وعود سخية، وغيرهم) أو الأشهر والأكثر رواجًا بدافع السخرية والتعاطف مع أبطال مكلومين وأقوياء (جعفر العمدة/ بابا المجال/ الأجهر/ ضرب نار) وغيرهم كذلك.
في النهاية أيًا كانت مساحات وسياقات تلك الأعمال، كان يتحكّم بشكل شبه كامل في الإنتاج الدرامي المصري في الفترة الأخيرة الشركة المتحدة التابعة تمامًا للدولة، في ما يمكن أن يقال فيها وما يجب منعه منها، خرجت أعمال قليلة من رحمة تلك السيطرة، كانت من بينها ما استغله المنتج عبد الله أبو الفتوح ليُعيد إنتاج إحدى روائع الأدب العالمي في مسلسل تلفزيوني مصري.
لم تكن تلك المرة الأولى التي يقتبس عمل مصري الرواية لإنتاجها وفق رؤية عريبة عمومًا ومصرية تحديدًا؛ بدأت مع إعادة إنتاج قصة عنترة بن شداد الذي قدمه فريد شوقي قبل أن يعيد إنتاجها في فيلم أمير الدهاء بعد أعوام قليلة، بينهما خرج الفيلم الأشهر والأنجح منها: أمير الانتقام، الذي قدّمه أنور وجدي في 1950 واستمر الاقتباس السينمائي منها بعد ذلك بسنوات طويلة للممثل نور الشريف الذي عشقها وأعادها في أفلام: ليل وخونة ودائرة الانتقام والظالم والمظلوم. هذه المرة في تناولها كمسلسل في لحظة مختلفة، ربما يُطرح من خلالها أسئلة عن اللحظة والسياق والأبعاد السياسية والثقافية التي تحيط هذا التحويل الذي كان كل ما ينقص الأعمال المذكورة هو الذهاب إلى البعد السياسي من خلالها.
براءة معطلة للفهم
يقتبس رشيد قصته من الرواية العالمية ليحكي من خلالها قصة تعتمد على البراءة والانتقام، ففي الوقت الذي يستعد فيه رشيد البطل (محمد ممدوح) للزواج مرة أخرى بعد وفاة زوجته الأولى من الفتاة الوحيدة أسماء (ريهام عبد الغفور)، يجد نفسه مسجونًا بسبب جريمة لم يرتكبها، فيسعى جاهدًا لإثبات براءته والعثور على ابنه والانتقام من كل من أُلحق به من الأذى غير المبرر، وربما في ذلك ما يمكن الوقوف أمامه، في مساحة من يتحمل مسئولية براءته تلك في زمن قاسي.
تقدم القصة التي كانت ثقيلة الوطأة على مخرجة تقوم بعملها الأول (مي ممدوح) في هيكل كامل من البراءة التي يعيشها البطل، الطيب، غير المغامر، المحب، الذي تُسقطه براءته في طريق وعرة من الخيانات التي تسجنه بسبب تساهله مع أصدقاءه والحب غير المشروط الذي أحب فيها فتاة لا يعرف أي شيء عن ماضيها.
يبدأ المسلسل فعلًا بعد مرور نصفه الأول، مباشرة بعد التأكد من قضاء عصارة حياته في السجن المؤبد بعد اتهامه بقتل الرجل الثري الذي يدير رشيد أعماله، يقسّم حكايته بين عالمين أحدهما بريء أكثر مما يبدو والأكثر أكثر غموضًا وظلامية وواقعية بالطبع، يتحول إلى دراما بوليسية انتقامية يسعى بطلها للبحث عن من تسبب في تحول حياته السابقة بعد هروبه من السجن. يجلس رشيد داخل السجن وخارجه تائهًا في أسباب ومصائر حرفت مسار حياته بهذا الشكل الغريب دون ذنب أو خطأ شخصي منه، ربما تمامًا كشاب خسر كل حياته في الثورة دون أن يدري أي خطأ اقترف.
الغيرة ذاتها التي يستشعرها صديق رشيد تمامًا كالتي كان يستشعرها صديق الكونت عندما أحب خطيبته، كانت ولا تزال صالحة للتعبير عن الخطف السياسي الذي قامت به عائلة البوربون باستبعاد نابليون وربما هو ذاته الذي يصلح في انسلاخ الواقع السياسي الذي يعيشه جيل شاب كامل في البلاد العربية مستبعد دون سياق سوى الغيرة والأحقاد والاستحقاق غير المبرر الذي استشعره الأخصام أو الأصدقاء الموهومين.
يظل سؤال البراءة تابعًا لكل حركات رشيد الذي يمثل كل براءات الشباب العربي، اللحظة التي يتحرك فيها رشيد خطوات لقتل براءته أو تحديدًا للشك مباشرة في كل إنسان يعرفه مهما كانت درجة قربه يصبح الحل أكثر اقترابًا، بات الشك الأبدي الحل الأمثل للنجاة وحل اللغز، ثمة حل أكثر جذرية كان سيدركه الشباب العربي لو كان تشكك في القيادات التي أظهرت تعاطفها الخبيث معه.
عالم كامل من الانتقام كمجاز للغضب المكبوت
مجموعة متتالية من الانتقامات أنتجت دراما المسلسل الذي حركته الغيرة من البداية، رواية صريحة عن الانتقام الأكثر وضوحًا وتماسكًا وعمق درامي، مثّله الكونت دي مونت كريستو رشيد، لا يمكن الحديث عنه منفردًا قبل إيصال الصورة كاملة ضمن الموسم الرمضاني الذي كان جزءً منه.
في عالم درامي علينا أن نمر عليه سريعًا لندرك محورية فكرة الانتقام غير المباشرة في الأعمال الأخرى بينما تحرك كل الدراما هذا الموسم، وما يمكن أن يعنيه ذلك سياسيًا. مقابل الأعمال التي وصفت على اعتبارها نسائية (تحت الوصايا/ وعود سخية/ ستهم/ عملة نادرة) وما يقابلها من ذكورية (جعفر العمدة/ بابا المجال/ الأجهر/ ضرب نار) أو حتى ما تم إنتاجه بالقوة مثل (رسالة الإمام) لما تأخذنا هذه التقسيمات المضللة إلى شيء، بينما كانت جميعها، ربما انتقامًا من سلطة لم يحصل عليها الجميع.
هذه المسلسلات جميعها تحتكم، بلا استثناء واحد، للانتقام، بكل صوره، ولا مسلسل ذُكر لا يحمل في رحلته سعي كامل للانتقام، مؤسس ومحرك للتحليل البنيوي وما بعد البنيوي حتى، صناعة حكاية، ما، أيًا كان سياقها، فيها رحلة انتقام، أبعد من الجندر والطبقة، ربما من أجل ذلك كان مفتاح الحوار حول كل تلك الأعمال يبدأ من فهم السُلطة أكثر من أي شيء آخر.
إذا كان هناك ثمة رحلة بنيوية كاملة، من صناعة أعمال هذا الموسم، وكواليسه المرعبة، التي لا يمكن حكاية بعضها حتى، للخوف والخطر، وقبول قصصه المختلفة، وثقافة جمهوره، ممكن ننطلق من خلالها، فعلًا، ستبقى السلطة، فقط، فقدانها، وتوهم حدوثها، في كل عمل، في لحظة من الغباء نبعد فيها اقتصاديًا وسياسيًا عن ما يحدث لنا وللآخرين لإنتاج أعمال فنية ترفيهية تحاول خلق حالات بديلة للحياة الراكدة المهزومة عن طريق هذا الانتقام المجازي المبطن في قصص مختلفة.
السلطة السابقة لصناعة الأعمال واستبعاد أي شيء قد يخلق كلام قاسي وأكثر واقعية والأخرى التي توجه الأحاديث بشكل مشروع وغير مشروع في مساحات نقاش على الجميع التواجد فيه، أو الاختفاء بعيدًا عنه، جزء من الحقيقة تدعي أنها تقول شيء لكن تفتقد لتصور منهحي للأسف. ولذلك العمل المقتبس الأكثر وضوحًا للجميع لاعتماده على قصة "انتقام" كمسلسل رشيد كان جيد في المحاولة سيء في التنفيذ، فقط لأنه لا يمكن أن يبني عالم درامي ظلامي لتشابكات وصراعات الحياة المستقرة التي أصبحت أكثر ارتباكًا من كل شي حولها لكنها معبره عنه، الظلم والسرقة والنفوذ، والسلطة التي لا يمكن الحصول عليها دون تلاعب، هل يتحملها المجرم؟ أم تتحملها الدولة التي تسهل هذا بالخوف والمصالح ووهم الاستقرار، طرح التساؤل وتخوف من إجابته التي قد تحمّله استبعاد عرضه.
مسلسل رشيد في النهاية محاولة جيدة لتحريك المياة الراكدة للتساؤل حول جدوى إنتاح أعمال قد يدرك المشاهد من خلالها ظلامية الحياة التي يعيشها في اللحظة التاريخية الحالية، وما يمكن للبراءة الحياتية/ الثورية أن تورّط صاحبها. انتقام كبديل لسذاجة سنوات من البراءة القبيحة، يمكن لعمل مثل رشيد أن يجعل المشاهد على أمل التغيير مرة أخرى بعد التخلص من البراءة غير المرغوبة، البراءة كإدانة سياسية، وواقعية، قبل أن تنتهي الرواية الأصليلة بقليل يوجه البطل حديثه إلى موريل للدرس السياسي الحياتي الأكبر: ليس في الدنيا سعادة مطلقة أو شقاء مطلق، وإنما هناك مقاربة بين حالة وأخرى، ومن ذاق الألم، والعذاب كان أقدر الناس على أن يحس السعادة القصوى، وينبغي أن نعرف الموت كي نقدر على الحياة... وإياك أن تنسى أن حكمة البشرية جمعاء تتلخص في كلمتين: انتظر وتذرّع بالأمل.






تعليقات