الرجل الذي فقد ظله.. لماذا يمكن للوهم أن يدمّر صاحبه؟
- Hossam Elkholy

- 21 يونيو 2018
- 5 دقيقة قراءة

"ألترا صوت" على ما يبدو أن الحديث عن فيلم "الرجل الذي فقد ظله" الذي أُنتج عام 1968 من الرواية التي كانت تحمل نفس الاسم، وصدرت في أكثر من 800 صفحة، ينبغي أن يبدأ من الحديث عن المؤلف نفسه في البداية، ثم التوقيت الذي ظهرت فيه حتى نكون على دراية أشمل بالمشكلات التي أسردتها وتسببت فيها في آن، وربما ذلك كان المفارقة التي ساعدت على خلودها لدينا ونسيان مؤلفها. حيث كان السؤال عن دور فتحى غانم الأدبي عندما أطلقت إسمه على الدورة العاشرة لملتقى الرواية العربية عام 2015، ذلك المكان الذي يتواجد فيه المثقفين والسينمائيين الشباب شيئًا يمكن أن يدعو للإحباط إلى حدٍ ما، فلم يعرف البعض سوى أشهر رواياته، والتي نعرض سيرته الآن من خلالها، ليصبح هو بشكل أو بآخر أحد ضحايا النظرية التي تفيد بموت المؤلف وعدم أهميته في عقول القراء.
تظل أكثر صفة شائعة يمكننا إلصاقها لغالبية الكتّاب هي كونهم "مثيرين للجدل"، لكن حياة "غانم" بالفعل يمكن أن تجعل تلك الصفة مشتركة في تعريفه بالتحديد دون غيره، حيث ترك ثروته الطائلة والاستمتاع بها ليكتب عن الآلام والأحزان والصراعات التي كان يمكنه الاستغناء عنها، فالكاتب الذي يريد نقل مشاعر وآلام الناس لا بد أن يكون أحدهم، لكن الوسط الأرستقراطي الذي جاء منه "غانم"، كان ناقمًا عليه، كما كان سببًا في الهجوم عليه بعد ذلك باعتباره لم يأتِ من أوساط الناس ولم يشعر بهم كان أكبر عقبات حياته، فخاض معاركه الفكرية والأدبية مع أبناء جيله أمثال: طه حسين ومحمود أمين العالم، وعبد الرحمن الخميسى الذي قال عنه "إنه ابن ذوات ولا يستطيع أن يفهم ما نكتبه، ولا يقدر أن يدرك ما نشعر به، نحن الذين ندافع عن الطبقات الشعبية الكادحة".
كما خاض غيرها مع زملائه الأرستقراطيين على حدٍ سواء، فكان من المثير والغريب أن تعمل في مهنة يقف مالك الوفير كنقطة ضعف لك أمام خصومك وأصدقائك، لكن ربما إن لم توجد تلك الصراعات، لما ظهرت لنا روائع مثل "تلك الأيام" التي حُذف منها عند نشرها للمرة الأولى، في حين إلتفتت إليها السينما مرة أخرى مؤخرًا في فيلم من بطولة محمود حميدة وأحمد الفيشاوي، أو رواية "بنت من شبرا" التي نفذت كمسلسل تلفزيوني في عمل يحمل نفس المسمى من بطولة ليلى علوي، أيضًا رواياته الأهم والمنوط بها هذا المقال، ذات التسمية الدقيقة المميزة "الرجل الذي فقد ظله".
منذ أن أقدم الرجل على صدور روايته الأولى التي كانت بعنوان "الجبل" في أواخر خمسينيات القرن المنصرم، كان اسم بطلها "فتحى غانم"، وربما يظهر لنا ذلك مدى تعلقه بواقعية الأحداث ومحاولة ربطها بالواقع بشكل يكاد يقرأه البعض ويفسره كحقيقة واضحة لا شك فيها، بالتالي فالرواية مثل ما جاء بعدها تعرضت لأذى شديد وتضييق عليها والحذف منها وقت صدورها فى كتب، سواء "الجبل" أو "الرجل الذى فقد ظله" أو "تلك الأيام"، حيث إنه بالفعل كانت رواياته سببًا في فصله من وظيفته بالجريدة التي كان يعمل بها.
https://www.youtube.com/watch?v=MaVfTHV7KYo فيلم "الرجل الذي فقد ظله".
كُتبت تلك الرواية في فترة صعد فيها العديد من الصحافيين والكتاب على أكتاف التملق والنفاق والكذب والتدليس سواء كان ذلك يمارس خلال كتاباتهم أو فيما بينهم، في أواخر الستينيات أثناء حكم جمال عبد الناصر الذي أمّم الصحافة وأخرس أصوات معارضيه ومعارضيهم كذلك، لم يكن يسمع أو يكتب سوى ما يريد الرجل ومرتذقيه من الكتاب، لذلك يعتقد الكثيرين أن الرواية من أبدع وأهم الروايات المصرية سواء عن طريق حبكتها المحكمة كرواية أصوات؛ أى أنها تحكى الحدث الواحد من وجهة نظر شخصيات عديدة، حيث صدرت على أربع أجزاء (مبروكة، ثم سامية، ثم يوسف، وناجي)، أو توقيتها الذي كان يمثل خطرًا كبيرًا على كاتبها، خصوصًا مع التلاسن بأن بطل القصة "الصحفي يوسف عبد الحميد السويفي" هو كاتب عبد الناصر الأول آنذاك "محمد حسنين هيكل". ذلك الصحفي الفقير، الذي رأى فيه الإنتهازي الذي صعد ساعده أستاذه "مصطفى أمين" الذي تجسده الرواية على إنه "محمد ناجي"، لكنه استطاع أن يتسلق على أكتافه هو الآخر.
في نفس السياق يمكن للموسيقى التصويرية للفيلم الذي صنعها "أندريا رايدر" أن تضعك داخل شعور البطل أو "الضحية" لو جاز التعبير، مجموعة من مشاعر الخطر والخوف والقلق ولا سيما الضعف الشديد تجاه كل شيء، رجل يريد أن ينزع نفسه من ماضيه وأسرته الفقيرة إلى المكان الذي قادته الأقدار إليه على حساب أي شيء، موسيقى قد يمكنها أن تشعرك بالإزعاج لو لزم الأمر حتى تصل غايتها. على جانب آخر لا يمكن إغفاله نجح المخرج كمال الشيخ والسيناريست علي الزرقاوي في نقل العمل سينمائيًا بشكل لم يخل بالقصة الأصلية للعمل، فاستطاعا نقل الواقع الصعب أثناء غارات الحرب والمعارك السياسية الدائرة في الجانب، وإظهار حالة الفقر التي كان يعيشها معظم المصريين آنذاك، وتسليط الضوء على ما يحدث في البلد وقتها ومحاولًا الكشف عن الذين سقطوا أمام أهوائهم الشخصية وسيطرة خيانة مبادئهم وظروف بلدهم.
يرى أغلب من قراء الرواية أو مشاهدي الفيلم، أن تلك فقط قصة صعود صحفي شاب على حساب الجميع، حتى أستاذه ومعلمه، أو على أنها صراعًا واضح المعالم والأسباب بين الخير والشر داخل النفس البشرية، وإلقاء اللوم الكامل على ذلك الصحفي الانتهازي "الطموح" الذي يستغل علاقته باستاذه وصديقه لتحقيق طموحاته، كما يتنكر لطبقته الاجتماعية الذي ولد فيها.
لكن على ما يبدو أن الأشياء إن لم تتحقق تظل في رأس صاحبها رغمًا عنه، أي أننا قد لا يمكننا أن نطلق أحكامنا على هؤلاء الأشخاص غير المتحققين بالإنتهازية والشر المطلق، وفي المقابل لا نستطيع أن نحمل لهم قدر من الاحتقار والاشمئزاز، لا نتعاطف معهم كما يمكن أن لا نعتبرهم أشرار بالمعنى الحرفي، على ما يبدو أن هدفهم الأهم الذي يعميهم عن كل شيء هو تحقيق الذات التي لم يستطيعوا تحقيقها في أي شيء نتيجة فقرهم داخل ذلك العالم المادي، وذلك كتكثيف للصراع الذي يدور داخلهم أكثر من كونه إلتماس عذر أو تحليل فلسفي.
على ما يبدو أن الفيلم تجسيد لشعور لا واعي قبل أن يكون واعي "فقدان للظل"، بحر من المظلومية إلى جانب عدم التحقق، كان "يوسف" ينظر لكل الأشياء حوله باحتقار نتيجة ذلك الإحساس الحقيقي بالحرمان، لكنه الحرمان الطبيعي الذي يمكن ترويضه أو تجاوزه مع الوقت خصوصًا في حالة شاب متعلم مثله، في حين كان يرى أن كل شيء مباح فقط لعدم الشعور بالعجز مرة أخرى الذي شعر به عندما تركته حبيبته نتيجة فقره.
كره يوسف أباه باعتباره السبب في ذلك الفقر، صب غضبه على الجميع حتى صديقه الذي كان يحبه بصدق لكنه كان يكره الفقر أكثر، الكل سبب في ذلك دون ذنب، وهؤلاء ماضي يجب التخلص منه لخلق واقع أفضل يناسب الطبقة الجديدة التي يلهث إليها منذ زمن، لا يهمه أن يخسر حب هؤلاء.
ربما لذلك يمكن للوهم أن يفقد صاحبه كل شيء؛ الوهم الذي يعني هنا تحديدًا خلط المعاني والضبابية التي تجعل من صاحبها مختل يحارب طواحين الهواء، باعتباره في "حربٍ" و"صراعٍ" ضد الجميع، فالجميع "هُمّ" يريدوا سقوطه وفقرُه واحتياجه مرة أخرى، هكذا يفقد بطلنا "ظله"؛ بمعنى أو بآخر أهله وأصدقاءه ونفسه أيضًا مقابل صراع وهمي يمكن تجنبه، أو الفوز فيه دون تلك الخسائر.
كان الغباء الذي يمثله بطلنا -ولا يزال- يستحق الاحتقار والسخرية في آن، ويمكننا أن نرى نهايته وحيدًا دون أدنى شفقة، فمن لا يرى "الدمار" في كل ذلك ينبغي احتقاره، أو بتعبير أنطون تشيخوف "أننا نرتكب حماقة إذا لم نعاقب هؤلاء الأغبياء" أي نتركهم ليدمّروا أنفسهم دون تدخل منّا.






تعليقات