الكامب اﻷسود: الحركة الطلابية لـ"فرافير" الجامعة الأمريكية
- Hossam Elkholy
- 25 فبراير 2020
- 7 دقائق قراءة
قبل سنوات عديدة كنتُ مع صديقان داخل مطعم في أحد الأحياء الأرستقراطية المصرية، أكلنا، ثم طلبنا الحساب، وجد صديقي المُعتاد على القدوم إلى المطعم أن هناك فارق سعر كبير وأغلى من المُعتاد بينما صديقي الآخر كان يرى أنه غير مهم زيادة هذا الرقم البسيط عمومًا إذا كنّا قد قررنا من الأساس أن نأكل في مطعم أسعاره هكذا لأنه "مش هتفرق". أغضب ذلك الرد صديقنا الأول فوق غضبه، رفض دفع المبلغ ثم سبّه وأنا معه -دون أن أتكلم حتى- بلفظ متوقع، أثناء مغادرتنا ظل يحكي قصة شباب الجامعة الأمريكية الذين اعتصموا عندما قررت الجامعة زيادة مصروفاتها وعارضوا مبررات زملاؤهم الآخرين الذين كان ردهم هو ذاته رد صديقنا "المغفل" لأنه: دائمًا هناك فرق، ودائمًا هناك مستفيد من المطالبة بالحقوق أيًا كانت بساطتها، كبديهية يمكن تناسي الوعي بها أغلب الوقت.
فاهم غلط
كثيرًا ما يُتخيل صورة ذهنية لدى بعض الناس عن شيء، وما تلبث أن تتحول هذه الصورة المتخيلة إلى عقيدة بالرغم من عدم تجريبها ومناقشتها، من الصعوبة مثلًا أن تقنع أحد الأفراد أن بعض الشوارع المصرية في الخمسينات كانت مليئة بالقمامة مثلما يوجد حاليًا أو أنه كان هناك تحرشات قليلة أو غير ذلك، لأن ذلك يتعارض مع الصورة الذهنية التي رسمتها المسلسلات والصور القديمة للأحياء، فتلك صورة ذهنية رُسمت على مدار سنين واتخذت موضعها داخل الروؤس وصعب تغييرها حتى لو كانت لا تمثل الحقيقة.
على ما يبدو هكذا يمكن أن تجد الصورة الذهنية المرسومة لطلاب الجامعة الأمريكية الـ 7000 لدى جزء ليس قليل من المصريين: مجموعة من الطلاب الأغنياء المرفهون؛ فطورهم بيتزا وعطلتهم في المالديف، غموض مريب يحوط سيرتها منذ نشأتها عام 1919 على يد مجموعة تبشرية أمريكية تابعة للكنيسة الإنجيلية وحتى انتقالهم من شارع محمد محمود في التحرير والهروب بعيدًا نحو منطقة التجمع الخامس الأرستوقراطية الهادئة.
في حين أنه يمكننا على سبيل المثال لا الحصر أن نتحدث عن أشياء تمت بناءً على مجهودهم دون سواهم: استطاعوا دخول ميدان التحرير عام 2003 في مظاهرات حرب العراق ونظموا قافلة للمؤن والأدوية إلى فلسطين بعد الانتفاضة، وقاموا بتنظيم القافلة الطلابية الوحيدة التي ذهبت لزيارة غزة خلال عدوان 2012.
مع متعة الحديث حول هذا الكيان الغامض يأتي الحديث عن الحركة الطلابية في مصر منذ نشأتها بالتالي دورهم في هذا الحراك الطلابي عمومًا ليمد مساحة أطول حول أهمية النميمة حولهم.
إلى جانب عدد كبير من الرموز الثقافية الذين تخرجوا من الجامعة الأمريكية هناك من قرروا كتابة تجربة حياتهم التي ربما ترسخت في الجامعة الأمريكية؛ المصورة رندا شعث التي ساعدت في وجود جيل يحمل أفكارًا جديدًا في ما يخص التصوير الصحفي والتوثيقي نشرت قبل أيام سيرتها الذاتية "جبل الرمل" تحكي خلاله حكايتها: أب فلسطيني وأم مصرية انتقلت بين لبنان وأمريكا حيث ولدت ومصر بينما كانت القاهرة والجامعة الأمريكية في الثمانينات مكان نضوجها وانخراطها في الواقع السياسي والثقافي.
ففي 1982 تحاصر بيروت بحرًا وبرًا وجوًا وتعقد لجنات مناصرة للشعبين الفلسطيني واللبناني تحاول هي أن تكون "مواطن مفيد" فتساعد يوميًا في توزيع أوراق تحض على المقاطعة الأمريكية. الفتاة التي كانت جدها أستاذًا في الجامعة الأمريكية في مصر والتي كانت تسكن بجانب مقر الجامعة القديم بالتحديد في حي جاردن سيتي الأرستقراطي مع أهلها.
ذات مرة أثناء سيرها توصيل أحد زملاؤها لها بعد توزيع المنشورات، وعندما توقفت السيارة أمام عمارتها، صاح: إيه دا ساكنة في جاردن سيتي؟ برجوازية يعني؟ كان ردها: أيوة برجوازية عندي تطلعات بروليتارية.
فرافير الـ auc
في كتابه الصادر حديثًا عن دار الكتب خان "الحركة الطلابية داخل الجامعة الأمريكية" يتناول طاهر المعتز بالله رئيس إتحاد الطلبة في الجامعة الأمريكية قصة الجامعة من خلال إتحاد طلّابها، يقدم أرشفة للحراك الطلابي في مصر عمومًا ثم يتحدث حول هذا الكيان الغامض نوعًا ما والذي يتم تصنيفه باعتباره بعيدًا ومنغلق و"فرفور" ولديه مشكلات غير المشاكل التي يعيشها مجتمعه.
يقدَم الكتاب بتحيّز كامل لوجهة نظر كاتبه الشخصية دون موضوعية في حكي أحداثه، يتأول على الخاص والعام من الأحداث باعتبارها سيرة ذاتية وشهادة معاصر للأحداث ليكون بمثابة "دليل للأجيال العاجزة عن التواصل مع أبناءها، لمساعدتهم في استيعاب سبب سخط أبناءهم على المجتمع وفهم محاولتهم الدؤوبة لتغييره"، ينقل أيضًا انقسامات الحركة الطلابية التي حدثت وأخطائها وشرح تكتيكات ذلك موضحًا نقاط ضعفها ليصبح دليل للذين يريدون بدء حراك مشابه، "كي يتعلموا من فشل الجيل السابق وليبنوا على نجاحاته دون الحاجة لإعادة اختراع العجلة".
قل لي أين تجلس أقل لك من أنت
في الغالب يقضي شباب الجامعات الحكومية والخاصة أمثالي أوقاتهم داخل جامعاتهم برحابة وحرية أكثر في التنقل من مكان لآخر، فأن تمتلك شخصية معينة واهتمامات تجمعك مع آخرين داخل جامعة ما لا يعني اعتياد جلوسك في مكان بعينه إلّا فيما ندر، تمشي من هنا لهناك دون ملاحظة أي تغيرات سوى الأشخاص بالتالي من الصعب تصنيف الطلاب بناءً على أماكن جلوسهم التي تتغير طوال الوقت.
نوعًا ما يختلف ذلك مع طلاب الجامعة الأمريكية في مصر ويصبح من السهل التعرف على ميول الطلاب من أماكن جلوسهم المعتادة: الجالسون في الساحة الكبيرة "البلازا" معروف عنهم حبهم للأنشطة الطلابية المختلفة هم دائمًا "شباب أكتفيتيز" أي شباب الأنشطة لكن دائمًا ما نجد لغة الكاتب تحمل العديد من الألفاظ الإنجليزية ولا أعلم إن كان ذلك هو السبب في كم الأخطاء اللغوية التي يحملها الكتاب أم لا -وهو أمر غير معتاد على دار النشر نفسها- لكن "محدش بياخد كل حاجة".
هناك أيضًا طلاب الـsteps على سلالم كلية العلوم والهندسة؛ محبي الحفلات ومتجاهلي الجامعة بمن فيها "شباب بيحب ونمبر وان" بمثابة امتداد طبيعي لشباب gussi corner في حرم الجامعة القديم بالتحرير الذين كانت تظهر بينهم موضة ارتداء الملابس الجديدة قبل أي مصري آخر. إذا أسعدك الزمن قديمًا كان يمكن أن يشبهك أحد بأنك من الـ"جوسي كورنر" لتصبح أشيك واد في روكسي.
بالعودة للحرم الجديد لا يمكن تناسي شباب الهاس؛ في الغالب هم شباب كليات الإنسانيات والعلوم الإجتماعية المشهورون بأحديثهم الفلسفية وأذهانهم النشطة دائمًا وتدخينهم المستمر للسجائر وأحيانًا المخدرات بغزارة ربما داخل الجامعة.
في الركن البعيد الهاديء داخل جامعة مساحتها 260 فدان يجلس شباب الـpva فنانو المستقبل من دارسي السينما والفنون المسرحية والعازفين على الأدوات الموسيقية وغير المهتمين بالمشاركة في النشاطات العامة لأن الفنان فنان، بهدوء دون صخب يعتبرهم الآخرين "جامعة داخل الجامعة".
في ذيل القائمة ومقدمة الوظائف مستقبلًا يأتي "الدحيحة" ليس لهم سوى مكان واحد يأويهم: المكتبة.
فليبق كلٍ في مكانه.. أيها الشباب
كل هؤلاء تقسّمهم الانتخابات في النهاية لثلاثة "كامبات" أو معسكرات الأحمر والأسود والأزرق بناء على لون ملابسهم، كل كامب كان عبارة عن مجموعة من الأصدقاء لكن مع زيادة أعداد الأعضاء احتاج لوضع استيراتيجيات تميز الفرد عن الآخر؛ الأسود تميزه ثوريته والأحمر يقف نقيضه، فهو كامب يميني محافظ تمامًا بينما يقف الكامب الأزرق بينهما باعتباره يخص الفن والمسرح بدون أي أدلجة ثورية وغير ثورية، لتجد كل مجموعة ميزتها التنافسية المختلفة.
الانتخابات في إتحاد الطلاب عمومًا في الجامعة المصرية الحكومية والخاصة تعتبر انتخابات تصاعدية بخلاف الإنتخابات في الجامعة الأمريكية التي يحق لكل طالب فيها التصويت لاختيار رئيس الإتحاد ونائبه، كما يمتنع الأمن تمامًا عن التدخل في هذه الانتخابات فعلًا وليس مجازًا، وبميزانية تزيد عن المليون جنيه يحملها رئيس إتحاد الطلبة الفائز لتصبح تحت تصرفه وفريقه.
كاتب هذا المقال كان ضمن الإتحاد الطلابي في كلية الإعلام لإحدى الجامعات المصرية، لذلك يعلم جيدًا مدى محورية هذه المميزات: هنا مساحة الحديث والنزول للشارع/ الطلاب أكبر وأشمل من غيرها بالتالي يصبح برنامج كل مرشح ذا أهمية مصيرية في الحكم على معاييره وجدوله ومدى أهمية مشروعه، ذلك إلى جانب توافر المال الذي يدعم الأحلام الوردية ويمهد طريقها. شكل مصغر نموذجي لتعلم الديمقراطية.
قصص كثيرة مثيرة وشيقة يحكيها الكاتب حول هذا العالم وحول ثورته الصغيرة غير المنتهية وأحاديث حماسية عن مطالب فئوية صغيرة ومختلفة كرفض زيادة سعر طبق السلطة من 18 إلى 21 جنيه أو تخفيض رواتب عاملي النظافة من 600 إلى 400 جنيه شهريًا في مكان يصرف طلابه هذا المبلغ أثناء فطورهم، كل ذلك في النهاية أشياء يريدها الطلاب ولا تريدها الحكومة/ الإدارة، تمرين بنّاء لبناء جيل حر دون مبالغة أو استعراض فارغ.
أغنية "هي المصاريف زادت كدا ليه" أحمد صافي ومروان إمام طلاب الجامعة الأمريكية
هذا عالم صغير يدور خلاله صراع تتزايد حدته وتتساوى قوة أطرافه تمامًا بعكس غيره؛ لا تسقط كفة الطلاب ولا يعاملوا باعتبارهم "شوية عيال" ولا يمكن سجن أو اعتقال طالب واحد فيهم حتى لو أصر على غلق الجامعة كلها مطالبًا بحقوقه في وقت يعد تعالي صوتك في أحد الجامعات الأخرى هو رهان على مستقبل عائلتك كلها، لكن كونك طالب في الجامعة الأمريكية يوفر لك الحماية الكافية لاعتبارك ذا أهمية أنت وكلامك الثقيل عن حقوق العمال والفلاحين والطلبة.
هذه كلمات لا تسخر من المحاولات التي قدّمها طلاب الجامعات الأخرى باختلاف مستوياتهم بل تضعها في صورتها الكاملة الأكثر جرأة وبطولية لو جاز لنا المقارنة، فهناك أنت تتكلم وتطالب بحقوقك وتجازف بكل ما تملك وهنا في الجامعة الأمريكية أنت تطالب بحقوقك والأموال تدافع عن أشياء قد تعكر مزاجك، الأموال تتكلم دون ضجيج لكن لا تنفي ثورية أبناءها وقلوبهم النقية.
هذه الديمقراطية التي يثور الطلاب خلالها في أمان نسبي يقدمها طلاب في مكان يرفع علم دولة هي الأكبر إستعمارية في التاريخ، قامت على أنقاض أكبر مذبحة عرقية عرفها البشر، قتل خلالها 70 مليون مواطن يجلسون في حالهم لُقبوا زورًا وبهتانًا بالهنود الحمر: دولة الولايات المتحدة الأمريكية، الخصم والحكم.
جوّا وبرّا
الأحداث داخل إتحاد الطلاب للجامعة الأمريكة الذي كان أول من طالب بعمل إتحاد طلابي للجامعات على مستوى مصر كلها كانت تجري داخله بمحاذاة لما يحدث في الخارج، أي مع إرهاصات ثورة 25 يناير من حراك وتجارب أولى تطبّق، وسط تخوين وخوف من الجميع، فمثلًا مع ما حدث للثورة من تشويه في وقت كانت الثورة في ميدان التحرير على بُعد خطوات من مقر الطلاب والجامعة القديم ستجد الأحداث تأخذك في داخل الجامعة لنجاح معكسر اليمين الذي يدعم مقولات شر الثوريين والثورة دائمًا بعد أن كانت لا يردها أحد عندما قام الطلاب بنزع لافتة سوزان مبارك من على أحد حوائطها.
مرة أخرى تضع نزاهة الاختيارات في الداخل وعدم تسييسها وصراعات مجلس الآباء الحقيقية لفهم رغبات الطلاب وتهدئة ثورتهم تساؤلات حول فداحة الخسارة في يناير على مستويات عدة، وضرورة إعادة النظر فيما يمكن إصلاحه والتعلّم منه دون الحديث فقط عن الأخطاء المراهقة ونظريات المؤامرة التي لا تنتهي ولا تُصدق.
أثناء التظاهرات العديدة داخل الجامعة والدعوات للنزول التي لم تهدأ داخلها مثلما هدأت خارجها نزل عدد من أساتذة الجامعة للمشاركة في تظاهرات الطلاب، وهو شيء ربما يجلب سخرية تكفي لتعبئة مسلسل كوميدي بالنسبة لطالب جامعة مصرية أخرى لم يشاهد هكذا حدث من قبل.
مثلًا يحكي الكاتب عن موقف الدكتور جلال أمين الكاتب الاقتصادي الشهير الذي يدرّس في الجامعة أن الطلاب المتظاهرون دخلوا عليه أثناء شرحه أحد المحاضرات، رحب بهم واستمع إليهم ثم قال للطلاب الحضور: من واجبي أن أشرح لمن يحضر ولكني أفضل لو أنكم خرجتم مع زملائكم للمطالبة بحقوقهم. ووعدهم بإعادة الدرس في وقت آخر.
ربما إلى جانب الحديث عن "فرافير" الجامعة الأمريكية علينا أن نذكر أساطير أخرى حقيقية، لجامعة لا تزال الجامعة المصرية الوحيدة التي تدخل تصنيف أعلى 500 جامعة في العالم، ففي عام 2001 قبل وجود وسائل التواصل الإجتماعي على تظاهرات لزيادة المصروفات 3000 جعلت الطالب الفلسطيني أبو لبن الذي يقال أنه أُخذت منه شخصية فتحي عبد الوهاب في فيلم "صعيدي في الجامعة الأمريكية" ونجحت في تخفيض المصروفات وخصمت 3000 جنيه أيضًا وفي مكان حكومته/ إدارته رغم كل معارضتها للمطالب تقدم استفتاء على سحب الثقة منها.
عالم صغير يؤهل من داخله على التفكير والفهم والجرأة يحكيه كاتب عايش ذلك ليؤمّن على مقولة بيرني ساندرز التي ختم بها حديثه: إن الصراع من أجل حقوقنا ليس صراع يوم ولا سنة، إنه صراع حياة بأكملها ويجب أن يحارب فيه كل الأجيال"، ولأنه صراع حياة بأكملها، دائمًا هناك فرق في طلب أبسط الحقوق وهو ما يؤكد فعلًا أن صديقي الذي قال لنا "مش هتفرق" على زيادة فاتورة حسابنا في المطعم الأرستقراطي كان دون شك "مغفل".
نٌشر في موقع المنصة
Comments