top of page

aboutMe

Egyptian writer and photographer, graduated from the Faculty of Media and Communication Arts, Radio and Television Department, interested in writing in philosophy, literature and film criticism.

الموت بين الشرق والغرب.. حواديت عامة وشخصية عن الموت الملهم

  • صورة الكاتب: Hossam Elkholy
    Hossam Elkholy
  • 16 ديسمبر 2020
  • 9 دقائق قراءة



الموتى يصبحون كل يوم أصعب مراسًا

من قبل كان أمرهم سهلًا:

كنا نمنحهم ياقة ومُنشّاة أو زهرة

نلهجُ بأسمائهم في قائمة طويلة

كانت الجثة توقّع في أعقاب الذاكرة

وتمضي من جديد إلى طابور

لتسير على إيقاع موسيقانا القديمة

لكن مهلًا

فالموتى قد تغيروا منذ ذلك الحين

اليوم يتهكمون ويسألون

يبدو لي أنهم يدركون

أنهم، تدريجيًا، يصبحون هم الأغلبية.1




أكتب مرثية يتداخل فيها الشخصي والعام. اعتدت تكرار كتابة أشباهها بتنويعات مختلفة لنفسي. في أوقات قليلة كتلك تُتاح المشاركة في الفقد الجماعي للنجاة من الوحدة والصمت المرعبان اللذان يتكالبا على أنفسنا الهشّة مع كل موت وفقد، أعلم أن هذا الحديث الحزين الممل قد يبدو شحذ للعواطف لكن ما باليد حيلة: من وقت لآخر يمكننا الحديث عن أنفسنا أثناء اندماجنا الإجباري مع العالم. لن أكتبه تحديدًا عن الزميلة دينا جميل الذي خطفها الموت واختارها بنظرته الثاقبة دائمًا، مؤخرًا، رغم كونها السبب فيه، ولا حول فقد كبيرعايشته منذ 25 يناير حرفي ومجازي في موت وسفر أصدقاء كنت أدخر معهم "تحويشة" ذكريات تمنيت استمرارها، ولا حول موت صديقي الأقرب قبلها، ولا حتى حول فقدي الشخصي الأول لأبي والشجن الأبدي بعدها، فقط، بل حولهم جميعًا لأن تزايدهم لا يتوقف؛ حول نظرتي ومجتمعي الشرقي الصغير للكون والموت، وعن النظرة الغربية للأمر نفسه، عن بداية تكوّن النظرة إلى الموت منذ الإنسان البدائي، وعن رؤية الأديان ثم الفلاسفة الأوائل وأتباعهم؛ عن الموت كموضوع للكتابة ولاستحالة تحقّقها، كمصدر للإلهام والعجز، أتمنى خروج السطور من فخ "الكلاشيه" والمظلومية والافتعال لأنها أشياء ثقيلة على النفس تمامًا كالموت.



أبي وصديقي.. ذكرى فقد ملهم

حُرم والدي من ميراثه في أموال جدّي بسبب عدة أشياء: حبّه للغناء في الموالد، البُعد عن البيت لأيام مع أصدقاءه، اصراره على السفر خارج مصر وترك أرضه وبلده، مغازلاته للنساء التي لا تنتهي، ساومه جدّي بين أن يترك كل ذلك وبين ماله الوفير كفلاح لديه أفدنة ومال لن يعوّضه، ولم يفلح، بعدها أجبره بالقوة والضرب على العودة من أحد الموالد إلى البيت، وجد أبي عُرس مُقام أمام البيت، وقال جدّي أن عُرسه اليوم وأجبره على الموافقة، وافق أبي على ذلك، وأتم عُرسه ثم استأذن وذهب إلى المولد الذي كان يحضره بحجة مشاركته في إعداد طعام لذيذ يحبه كالغناء. هكذا كان زواجه الأول، تزوج عدة مرات وغامر بالتعارف والسهر والحب المستحيل لمرات أكثر، قبيل موته كان تحمله يد أمي؛ الزوجة الثانية، على سريرهما، كنت أنام على الأرض بجانبهما، وضعتْ وجبة أبي المعتادة منذ مرضه أمامه، طعام مسلوق بدون ملح، جلسة صامتة دون غناء ورائحة غير مريحة وطعام وصفه أطباء يكره سيرتهم، لم يأكل ولم يتحرك، دون الخوض في استعارات تصف حالته لم أر عجز في وجه أبي أكثر من تلك المرة التي كان يرى فيها نفسه مجبر على طعام وجلسة وحديث لا يريده. مات بعدها بساعات، التناقض بين أمله في الحياة ومحدودية طاقته عجّل بموت رجل كان يحب الحياة أكثر من أي شيء آخر. فكرت أن أفعل مثلما فعل الشاعر الرومانسي فريدريك فرايهير الذي كان يعيش في زمن كانت المشاعر فيه أقل تركيبًا واضطرابًا وأكثر استقرارًا ووضوحًا عندما أحب فتاة وتقدم لخطبتها وماتت قبل الزواج، فجلس لسنوات يكتب في ذكراها قصائد "أناشيد الليل" ينتقم فيها من الموت الأليم الرهيب لكني وجدت كتابتي للشعر سيئة كالموت، وظننت أني أبالغ في حزني فتناسيت، كنت أصدّق أن " السرور المتصل كاذب وهو خليق أن يقتل النفس ويميت القلب، وإن الحزن المتصل صادق ولكن نفوس الناس لا تطيق له احتمالًا2.


أبي كانت تصرفاته شبابية: متهور وعصبي ومنفعل وخفيف الظل، وكنت هاديء وصامت وكئيب كعجوز بلغ من العمر أرذله، كنت والده، عندما مات، فقدت إبني. ألهمني فقده أن أسرق شخصيته التي اعتقدت أنها الأنسب للبقاء.


لم يكن موت أبي مثل صديقي الشاب النضر الذي مات فجأة في حادث سيارته الجديدة والذي كان من المفترض ذهابي معه وقتها إذا استيقظت على إتصاله. لم يكن في خيالي ما حدث، كثّف هذا من نظرتي للموت والفقد، الموت ممتثل أمامي بنحو مستقل عن أبي الشيخ الكبير الذي تجوّل بين الدول وسافر، عاش كصعلوك وكملك، لكن ربما تكثيف الحزن هنا كان يتعلق بالتاريخ القصير لصديقي نفسه ليس للنظرة للموت. في واحدة من أقدم التجارب المكتوبة عن الموت نجد أسطورة جلجاميش البابلية الذي "كان ثلثاه إله وثلثه الباقي إنسان، أسلحته فتاكة، ألقى الرعب في قلوب الناس، لم يترك فتاة لحبيبها ولا خطيبة لنبيل" بينما صارعه أنكيدو على ظلمه هذا، ثم أصبحا صديقين حميمين، بعد فترة قتلت الآلهة أنكيدو، أفقده موت صديقه كل ذلك وتأكد بعدها من موته الشخصي، كانت فجوة موت الصديق فاصله في نظرته للفقد والحياة قال: هانذا أهيم في القفار خائفًا من الموت. وكان التأثير المربك ذاته لديّ لأن الزمن دخل للمعادلة3.


حدادي على صديقي كان "حداد علاقة المحبة وليس حداد تنظيم الحياة" شعرت أني ربما سأصبح باستمرار في حضرة الموت الطازج، كمغامرة مثيرة مليئة بالكلام الصامت تتحول مع رتابة الصمت إلى حداد حقيقي لا يجد كلمات تعبر عنه ولا يمكنه المغادرة. الزمن يخفف حدة تأثير الموت، كان هذا وقت أبي، لكن الزمن هنا تحول مفهومة وانعدم معناه، اكتشفت أني لم أكن أرغب سوى في أيام قليلة مسروقة من الحرية بعيدًا عن أي إنسان أحبه، فترة قصيرة فقط لكن دوام الغياب هذا وعدم وجود "آخر" أساسًا كان يعني انتهاء حريتي، يبدو فعلًا دون حاجة لذكاء خارق أني سأموت أيضًا ربما قبل خوض رحله كوالدي، وأنها لم تكن دعابة ثقيلة الظل؛ يا إلهي، أنا أموت! ويبقى العالم! تصور مربك لا يمكنني التفكير فيه ولا الكتابة عنه، هيا ننهي هذه الفقرة.


في كتاب يوميات الحداد الذي كتبه الناقد رولان بارت بعد وفاة والدته والذي استعرت منه وصفه السابق للحداد يقول: أفكر في أمي وهي موجودة قريبًا، كل شيء ينهار، ها هي البداية الرسمية للحداد الكبير، والطويل، لأول مرة منذ يومين، تقبلت فكرة موتي أنا شخصيًا... فكرة مذهلة ولكنها ليست محزنة، أن أمي لم تكن "كل شيء بالنسبة لي"؛ وإلّا ما كنت كتبت مؤلفاتي، منذ أخذت أرعاها، منذ ستة شهور، كانت بالفعل "كل شيء بالنسبة لي" ونسيت تمامًا أنني كنت أكتب، لم أعد مهتمًا بشغف إلّا بها، قبل هذا، كانت تجعل نفسها شفافة حتى أتمكن من الكتابة". الرعب من موت الآخرين في النهاية هو رعب ذاتي من الموت الشخصي لكن في النهاية ما ينتج "أدب حقيقي هو مثل هذه الصدمات". لأنه موت ملهم، ألهمه الكتابة كما ألهمني موت صديقي بعض من تفاهة الحياة، برغم كل شيء وبصرف النظر، كان الأمر ملهم.



الإنسان البدائي والأديان وأبناء الشرق

ربما لا يخفى على كثيرين تبعًا حتى للنصوص الدينية الارتباط بين الموت والحرية، الحرية بعيدة عن وجوده دائمًا، ارتبط الموت بممارسة الحرية لأول مرة مع طرد آدم من الجنة. لكن هذه الحرية أخذت تفسيرات لم تتوقف حتى اليوم منذ الإنسان الأول.


الموت للإنسان البدائي كان نتاج عمل عدو أو تأثيره الشرير، لم يكن الإنسان نفسه مسئول عن الموت، كان يعتقد أن الآلهة بعثت بالموت إذ أخذتها الغيرة من الإنسان الذي طردها من الأرض، فأختار الموت لها والخلود له، لأن الموت هو الشر الأعظم إذ لو كان غير ذلك لكانت قد ماتت هي الأخرى. كانوا يؤمنون بالخلود دون شك، كان هناك فارق بين الشخص الحي وجثته التي تبقى للأبد. مثلًا في كتاب الموتى كذلك تجد يقينا في الاعتقاد بدار الخلود كحقيقة لا شك فيها، أيضًا كان "المصريون القدماء شعبًا مريضًا تملكته فكرة الموت فأفنى زهرة حياته في كآبة ووقار في غمار الاستعداد لنهاية الحياة". تناقلت هذا المعتقد المتجاهل للموت واستمر إلى الآن؛ هناك معاصرون يعتقدون بتواصل الحياة بعد الموت على هيئة شبح؛ قبائل الإينوس وأبناء "تاسيمانيا وساموا" في اليابان يؤمنون أن للإنسان بديل روحي، لأن الإنسان يظهر أحيانًا في الحلم فهذا هو البديل، بعض من في "الاسكيمو" يقولون أن للإنسان "اسم وروح" بعد الموت يغادر الإسم إلى إمرأة حبلى ويولد من جديد، في "أريزونا" يعتقدون أن لكل شيء حتى الجماد أجسام أثيرية ونسخ مطابقة للأجسام. ربما كل ذلك كنتاج للخوف من الفقد والفناء وربما كانت تصرفات الإنسان البدائي غير المهتم بالموت نتاج حياته الخطره أساسًا وتعرضه للموت باستمرار، أصبته ذلك بالبلادة من الفكرة.


أغلب أبناء الشرق عمومًا، وفقًا لمعايش يومي داخله، ولعدد ليس قليل من الأعمال الفنية التي تناولت "الحزن والموت" كثيمة قديمة ومعاصرة، يظهر كمخلِص أبدي للحزن ومعظّم للموتى والأموات. ثمة أيام بعينها للتذكر وإعادة المراسم وأخرى للامتناع عن أطعمة غير مرحّب بأكلها كونها لا تتناسب مع وجود فقيد وأشياء أخرى تفضّل فيها "روح الميت" على رغبة الأحياء. امتثالًا للوازع الديني المنتشر بين أبناءه ربما كطقوس ظاهرية ليس كإيمان راسخ، تُبجّل الحزن.


النظرة العبرانية اليهودية لديها أفكارها المتضادة عن الموت، ففي تفاسير الحاخامات أن الله امتدح الإنسان لذلك فالشر (الموت) يأتي كخطأ من الإنسان ذاته وما يهم هو ما بعده "وكثيرًا من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية وهؤلاء إلى العار للازدراء الأبدي" بينما آخرون يرون نظرة مغايرة في عدم الاعتقاد بالآخرة أساسًا "كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك لأنه ليس من عمل ولا اختراع ولا معرفة ولا حكمة في الهاوية التي أنت ذاهب إليها". وصف المسيح في الإنجيل في موقف الموت يقول "فلما رآها يسوع تبكي، واليهود الذين جاءوا معها يبكون، انزعج بالروح واضطرب" المسيح "رجل أوجاع ومختبر الحزن" عايش عذابات الفقد المستمر حتى أن بعض التفاسير تقول أنه استمد اسمه كمسيح لأنه كان يمسح الأرض أي ينتقل كثيرًا للدعوة. صلب المسيح ذاته بهدف "موته" حكاية ملهمة عن الموت والفقد ومدى تقبلهما للإنسان المؤمن. في سيرة نبي الإسلام محمد نجد فقد منذ الولادة، ربما هي ما جعلته "الهاديء الزاهد"، جاءه عام وُصف بعام الحزن كان بسبب فقد أحبّته؛ الأديان/ الأنبياء تستقبل الفقد والموت بالمشاعر الإنسانية ذاتها وتعتبره أزمة البشر الكبرى التي تسبق خلوده بعد ذلك في النعيم لو امتثل أو الجحيم لو عصا، بالرغم من أن ما يسبق الموت غير مركزي في "الأبد" إلى أن الموت يترك الأثر الصادم دائمًا في كل مرة للإنسان العادي كما الأنبياء.



جاك شورون ومشروع الموت الغربي

لم أعرف كاتب غربي اهتم بمسألة الموت والفقد في الغرب كما عرفت الفيلسوف جاك شورون، قدم عدة كتب تُرجمت مثل "الموت والإنسان الحديث" و"الانتحار" وأنضجهم كان "الموت في الفكر الغربي" الذي أرتكز عليه هنا وأعرض خلاصته، والذي ترجمه كامل يوسف حسين عن دار المعارف، ركز مشروعه البحثي حول الموت والفقد منذ فلاسفة ما قبل سقراط وما بعده والنظرة الحديثة للموت، ينقل في أبحاثه أن فلاسفة ما قبل سقراط انعدم خوفهم ومجتمعهم من الموت في البداية، بينما تطورت النظرة مع وجود الإغريق الذين كانوا يرمزون للموت على اعتباره "سم حلو المذاق"، اعتقد أن حزن الإغريق الرهيب من الموت كان بسبب حياتهم الجميلة السعيدة، تحولت النظرة إلى رهبة الموت ووحشته رويدًا رويدًا. في الديانة الهوميروسية ومع تواجد فيثاغورس علّم الرجل تلامذته تناسخ الروح وعودتها إلى الله لكنه كان تأثيره محدود على العامة، بينما فلاسفة أيونيا الحكماء استخلصوا نظرية: إذا كان الماء هو أصل كل شيء، فكل الأشياء واحدة، وهي نظرة يفنى فيها الفرد ليبقى المجموع الإنساني.


"شذرة انكسماندر" وهي أول نص فلسفي أصلي نعرفه تقول: إن الأشياء تفنى وتنحل إلى الأصول التي نشأت عنها وذلك أن بعضها يعوّض بعضًا وتدفع جزاء الظلم وفقًا لما يقضي به الزمان". فأكدت النظرة الفانية التي أصبحت تسيطر على الفلاسفة فيما بعد، ظهر التساؤل الأبدي: ما قيمة الوجود إذا كان عارضًا زائل؟ جعلتها نظرة هيراقليطس أكثر تفككًا عندما قال "إننا ننزل ولا ننزل في الأنهار ذاتها، إننا موجودين وغير موجودين" جاء يشكك في الوجود ذاته فأصبحت النظرة إلى الموت مائعة: إن الفانون خالدون والخالدين فانون، فأحدهم يعيش بموت الآخر ويموت بحياة الآخر. زاد تلميذه أقريطليوس الأمر صعوبة عندما قال: لا يستطيع الإنسان أن يخطو إلى النهر ولو مرة واحدة. عارضا بذلك نظرة الفلاسفة الرواقيين والأبيقوريين التي ترى أن العالم يجدد نفسه باستمرار على مدار السنوات ليحدث عود أبدي للأشياء.


يصف شورون نظرة أنامساجوراس على اعتبارها أول موقف متحرر مستقبل إزاء الموت: لا يجب أن تتدخل ضروب البؤس وقصر الحياة ينبغي أن تتدخل في غاية الحياة التي تتمثل في البحوث العلمية" قرر هذا الفيلسوف التفكير "عمليًا" في الأمر على اعتباره في جميع الحالات خارج عن إرادة سيطرتنا. بشكل ما يشبه نظرة ديمقريطس الذي كان يرى أن الهدف من الحياة هو السعادة وهي تأتي من تركيزنا على الممكن والمتاح، بعيدًا عن ما هو مستعصي الفهم.


أسخيليوس كان يرى الموت شفاء من الحياة، وأن الأمل في حياة أخرى ليس عزاء حقيقي يقول: يقينًا هناك حياة أفضل تحفها البركة والقداسة لكنها حجبت في رحم الغيوم، وهكذا فإننا نتشبث يائسين بروائع العالم الخداعة لا لشيء إلا لأننا لا نعرف حياة أخرى.


"الموت وحده هو الذي لا يجد الإنسان شفاءً منه" هذه رؤية سوفوكليس، بينما الفيلسوف الآخر أنتيجونا يقول: إن الإنسان متناه وعابر لكن عظمته تتمثل في تقبله لوضعه الإنساني بحس المسئولية وبقوة عارمة للشخصية في مواجهة الموت.


عندما حُكم على سقراط بالموت قدم وجهة نظره تجاهه: الصعوبة ليست في الهرب من الموت، لكن الصعوبة الحقيقية في تجنب ارتكاب الخطأ. البعض يرى أن هذه النظرة "الشجاعة" للموت جاءت من إيمان الفرد بالخلود وحياة ما بعد الموت وهو ما يمكن أن يحيلنا لنظرة "المؤمنين" للموت كشهادة وتضحية.


موت سقراط الظالم حوّل نظرة أفلاطون التلميذ إلى "العدالة" فقدم كتابه "الجمهورية" عن الحكومة الصالحة والتربية والشعب ولم يتوغّل أكثر في نظرة الموت والخلود الذي ظل يعتقده. تلميذه أرسطو اعتقد أنه مستحيل وجود النفس في ذات أخرى، لكنه آمن بخلود العقل لأن "العقل أكثر من أي شيء آخر هو الإنسان" بالتالي قد يكون الموت شرًا لكنه ليس عبثًا" فعلينا استعمال العقل في الخير لنا وللبشرية.


الفيلسوفان ماكوس وأوريليوس لم تكن الفلسفة تعتبهما بقدر معرفة القدرة على النظر للحياة والموت بشكل فلسفي. بعد زمان كبير وبعد ظهور الأديام سيظهر فيلسوف آخر هو مونتاني سيوافقهم الرأي: التفلسف هو أن تتعلم كيف تموت. جميعهم اتفقا على أن الموت جزء من نظام الكون وشرط الخلق "ومن يعرف أن الحرمان من الحياة ليس شرًا سيعرف كيف يتمتع بالحياة.


في الفلسفة الحديثة ومع رينيه ديكارت كان يرى أن من خلال معرفتنا الصحيحة بالجسم البشري وعن طريق الغذاء المناسب سيغدو من الممكن مد عمر البشر إلى قرون عديدة. لكنه اكتشف بعد ذلك زيف ذلك عندما قال: بدلا من إيجاد سبل للحفاظ على الحياة اكتشفت سبيلا أكثر سهولة هو ألا نخشى الموت. في ذلك وبعده وافقه اسبينوزا الأشهر بين فلاسفة القرن السابع عشر أنه: على الإنسان الحر ألا يفكر في الموت، لأن حكمته هي تأمل الحياة. إيمانويل كانط لم يؤمن بالخلود بل بالشك في كل شيء: ليس في استطاعتنا أن نعرف أي موضوع كشيء في ذاته وإنما كموضوع للحدس الحسي.


انتقلت الفلسفة الغربية الحديثة شيئًا فشيئًا إلى أمران متلاصقان: البُعد عن النظرة الدينية التي تضع الموت كشيء ينبغي تذكره دائمًا في حزن وصبر إلى تجاهله بوعي كامل. وعكست أفكارها عن الحياة وطبيعة التأقلم داخلها فقط كغاية، بخلاف النص الديني المرتكز في غالبه على الموت وما بعده.


ربما نموذج الإنسان الغربي -باستثناءات قليلة- أكثر احتفاء بالحياة من الإنسان الشرقي -باستثناءاته هو الآخر- نظرًا لسنوات خضع فيها وعيهما كلاهما لأفكار الموت والفقد المختلفة. لم تكن الفلسفة في صراع مباشر مع الدين ولم يكن الإنسان الشرقي في صراع مع نظرة الغربي للأمر ذاته، في الحالاتان كان الموت ملهم لتصور شكل الحياة للإنسان عمومًا، ملهم للمعتقد والفكرة وطريق وعرة لإنتاج أفكار والإيمان بها من أجل الحياة.




نشر في مجلة مرايا.


هوامش:

1 - مختارات شعرية. المولف: روكي دالتون. المترجم: أحمد حسان. الناشر: المركز القومي للترجمة. مقتطف من صفحة 124.

2 - مع أبي العلاء في سجنه. المؤلف: طه حسين. الناشر: دار المعارف. مقتطف من صفحة 77.

3 – ملاحم وأساطير من الأدب السامي. ترجمة: أنيس فريحة. الناشر: دار النهار. مقتطف صفحة 68.

 
 
 

Commentaires


bottom of page