"بعلم الوصول".. ذواتنا في قصص الآخر
- Hossam Elkholy
- 4 أغسطس 2019
- 4 دقائق قراءة

ثمة أزمة مزمنة يعيشها الكتّاب في العالم العربي منذ عشرات السنوات: الخوف من كتابة سيرتهم الذاتية لأسباب ربما أهمها دراستهم لطبيعة مجتمعهم المعروف إلى حدٍ كبير كي لا يكون هذا الرأي مبتسر وشمولي بالحكم على الأشخاص والأشياء في داخله أخلاقيًا ومحاسبة أفعالهم وأفكارهم المعلنة وغير المعلنة، الأمر الذي يجعل الكتّاب يقررون حجب أنفسهم خلف شخوص رواياتهم وقصصهم أو حتى خلف موضوعات كتاباتهم اليومية في حالة من يرتزق منهم من قلمه تاركين كتابة السيرة في أغلب الأحيان إلى أن يبلغوا من العمر أرذله فيمرّروا حكمة أيامهم الماضية في شكل درس مستفاد من كهل مشهور -في الغالب- لتكن بمثابة وصية للآخرين.
هذا التخوّف المستمر يطرح أسئلة أكثر تأسيسية فيما يخص كتابة السيرة: لماذا نكتب سيرتنا الذاتية أو حكاياتنا الشخصية أساسًا؟ وما مدى اهتمام القاريء العربي بقراءة السير/ المذكرات/ الاعترافات الذاتية للكتّاب؟ وهل يمكن لكاتب "عادي" غير مشهور أو شخص عادي أن يكتب نفسه للآخرين أو يُكتب عنه قصته؟
وسائل التواصل خففت من وطأة الإجابة على تلك التساؤلات وجعلت الأمر أكثر سهولة وتحرر، فالجميع يطرح ذاته أمام الجميع دون خجل، بالطبع لم تحل هذه المواقع الأزمة نهائيًا لكنها خففت حدتها حتى لو كان الأشخاص في الغالب لا يكشفون سوى عن أفضل ما لديهم.
مع الانتهاء من قراءة كتاب "بعلم الوصول" الذي صدر حديثًا عن دار الشروق للكاتب والإعلامي المصري أحمد خيرالدين ظهر أحد هذه التساؤلات في ذهني مرة أخرى، مع أن الكتاب يطرح قضية مختلفة: هو نموذج حول كيفية تغيّر حال المجتمع المصري، عن طريق عرض بعض رسائل وخطابات تنتمي إلى زمن مضى كانت فيه تلك الخطابات وسيلة التواصل بين الأسر المصرية.
"إلى جانب المتعة في قراءة الأشكال التي كان الناس يعبرون بها عن مشاعرهم وأفكارهم كان فضول آخر ينازع هذه المتعة عندي لمعرفة من أين جاءت تلك الرسائل ولماذا فرط فيها أصحابها، من هم؟ وكيف حالهم الآن؟ هل هذه العناوين المتروكة على الأظرف ما زالت كما هي؟".
الكتاب الذي صدّره كاتبه بجواب من كتاب جوابات حراجي القط، العامل فى السد العالي لزوجته فاطمة أحمد عبد الغفار فى جبلاية الفار، الذي كان هو الآخر تأريخ لفترة بناء السد العالي لم يكن سوى بحث شخصي عن جوابات ضائعة كان يرسلها الكاتب إلى والده في الخليج عندما كانت تلك الوسيلة الوحيدة للتواصل معه. ربما اختفى الكاتب خلف جوابات هؤلاء الغرباء الذين يشبهونه.
يقول الكاتب عن نفسه في بداية الكتاب: لاحقًا منحتني أمي حق كتابة خطابات مستقلة لوالدي، أتفنن في التحضير لها، وأجرب فيها الرقعة والنسخ وما تعلمته من الأستاذ رجب من الخطوط وأضيف في كل مرة كلمات وعبارات توحي بأنني شخص كبير في السن يتحدث مع صديقه لا والده.
لم يكن "بعلم الوصول" كتاب للنوستالجيا والحنين للماضي بقدر ما كان بحث ذاتي عن مشاعر لم تعد روحها لدى كاتبها أو الباحث عنها إلا من خلال كتابات ورسائل الآخرين.
بشكل عام كانت الجوابات والرسائل الوسيلة الوحيدة للتواصل بين الذين أجبرتهم الحياة على البُعد؛ الأزواج والمحبين والأصدقاء والأهل، وكان تلك مادة خام للأفلام والأغاني المصرية والعربية: لدينا قصة شهيرة في مصر؛ إذ كان الكاتب أبو السعود الإبياري يجلس على المقهى في خمسينيات القرن الماضي عندما سمع شكوى أحد البوسطجية من تكدس آلاف الرسائل التي يقع على عاتقه توزيعها فكتب "البوسطجية اشتكوا من كتر مراسيلي/ وعيوني لما بكوا دابت مناديلي التي كانت أشهر أغاني الفنانة رجاء عبده. غنت فيروز: كتبنا وما كتبنا/ يا خسارة ما كتبنا. استنكرت نجاح سلام قصة حبها قائلة: عايز جاوباتك! يعني إنتهينا خلاص؟ تساءل المغني التونسي الهادي الجويني: مكتوب يا مكتوب/ علّاش تتأخر يا مكتوب. المطرب محمد عبده ترجّى حبيبته: لا تردين الرسائل/ ويش أسوّي بالورق. تنهدت ليلى مراد وهي تغني: أبعتلك جوابات وأستنى ترد عليا. طار انتظار ميادة الحناوي قبل شكواها: عدت سنة حتى الجواب منهم موصلشي. لكنها لم تكن كحيرة جورج صايغ وهو يغني: عم إكتبلك ها المكتوب تا يروح ويوصلّك/ وما بعرف في هالمكتوب شو راح أقدر أقولك. تمنت ليلى جمال وصول حبها في أغنيتها: يا جوابنا روح لأحبابنا طاير/ ومعاه قلوبنا صحبة داير مداير. وكان أرقهم بالنسبة لي ما كتبه عبد الرحمن بن سعود للفنانة السعودية عتاب: كلمة ولو جبر خاطر/ ولا سلام من بعيد/ ولا رسالة يا هاجر/ بيد ساعي البريد. وغير ذلك الكثير لم يتسع الوقت ولا المساحة لذكره كما لم يتسع لعشرات الأفلام والقصص التي تضفّرت حبكتها ضمن جوابات ورسائل المعارف والأحبّة.
في مجموعته القصصية الأولى "من الشباك" سجّل خير قصص وحكايات لعدد من المعتقلين الحقيقيين، وهي قصص يمكن اعتبارها توثيقًا لمشاعر إنسانية مشتركة أكثر من كونها أي شيء آخر؛ مشاعر أساسها الحب لبشر لا يعلمون حتى أسماء بعضهم الآخر يحكيها الكاتب عنهم. عندما اختار أن يكتب مشاعره عن ثورة عايشها وخاضها مع جيله اختار تدوين مشاعر معتقلين مجهولين أيضًا ليختبر مشاعره الشخصية ومشاعر قرّاءه عن الأمر؛ إذ لم يستبعِد أن يكون القاريء مكان من يقرأ عنه.
لم أر مشروع أحمد خير الدين الأدبي سوى بحث دائم عن أشخاص آخرين يكتبون مشاعره الشخصية؛ اختار الكتابة عن قصص أشخاص يمثّلوا ثورة خاضها معهم وبهم كجيل في "من الشباك" كما اختار البحث على مدار عامان ونصف عن رسائل مهجورة فتّش فيها عن طفولته التي ضاع جزء مؤسِس منها مع ضياع جواباته لوالده في كتابه الثاني بعلم الوصول. حواديته خفيفة على القاريء بقدر لمسها لمشاعر هو يعلم ثقلها علليه؛ فيمرّر مشاعره الشخصية/ مشاعرهم خلف سخرية ونكات حميمية وعتاب أصدقاء وأناس في عربة ترحيلات يتغزّلوا في حرية يفتقدونها.
في النهاية وعلى ما يبدو أني تأوّلت أكثر مما ينبغي على الكاتب المسكين أحمد خيرالدين؛ على اختياراته الكتابية ومساحته الشخصية، فربما لم يدر في ذهنه ما قلت ولم يقصد أن تكن كتاباته تعبيرًا متخفيًا عن الذات، لكني أعدك عزيزي القاريء أني لم أكذب أو أدّعي شيئًا في كل ما كتبت ففي أسوأ الظروف وإذا قرر الكاتب مقاضاتي في المحاكم ربما كنت أنا الذي أحجب ذاتي خلفه؛ فكنت مثله أيضًا منحتني أمي حق كتابة خطابات مستقلة لوالدي -رحمه الله- عندما كان يقيم في الكويت بينما نحن في مصر، كانت تلك الجوابات وسيلتي الوحيدة للتواصل معه، وكنت أتفنن في التحضير لها وأجرب فيها الرقعة والنسخ من الخطوط، وأضيف في كل مرة كلمات وعبارات توحي بأنني شخص كبير في السن، ومثله أيضًا ضاعت رسائلي تلك التي كنت أرسلها، لذلك وجدت بعض السلوى في تلك الرسائل المشابهة، وجدت فيها التعبير الإكليشيهي المباشر عن مشاعري حتى أني فرحت بترك الكاتب للجوابات كما هي بالأخطاء اللغوية فيها.
لم يمثّل لي الأمر حنينًا للماضي بقدر ما مثّل رحلة جديدة أشعر أني خضتها قبل ذلك. ربما كان كل ذلك من وحي خيالي الشخصي لذا قررت تجاوز إدّعاءه الذي لا أريد أن أصدقه: أنه يقتفي أثر اللغة وتغيراتها على مر الزمن، إلى تساؤله الأكثر شجنًا لي في نهاية الكتاب الذي أسأله لنفسي بشكلٍ يومي: أين تستقر رسائلي وأنا صغير الآن؟
Comments