"ثلاثية" كريستوف كيشلوفسكي.. تأملات فلسفية للخيانة
- Hossam Elkholy
- 18 نوفمبر 2021
- 4 دقائق قراءة

مع اقتراب نهاية عام 1994، العام ذاته الذي أنهى خلاله فيلمه الطويل الذي قرر أن يخرج كأفلام ثلاثة، في ثلاثية الألوان الكبيرة المنفصلة المتصلة التي تحمل اسم ومعنى العلم الفرنسي: الأزرق الذي يرمز للحرية، الأبيض الذي يرمز للإخاء، الأحمر الذي يرمز للمساواة، وقف، ألقى كلمات بسيطة مفاجئة، قصيرة حادة كطلقة مسدس، أمام كاميرات العالم بعد ترشيحات للأوسكار وجوائز أخرى، مستقبل يبدو لا زال فيه بقية، ينتظر التنظير له ومن خلاله، اختار أن يقول: "سأكتفي من صناعة الأفلام، سأعتزل من أجل القراءة والتدخين"، بالطبع يمكن في سياق تلك الكلمات والثلاثية تحديدًا أن نحكي قصته ومسيرته وما يحيطه من استثناء ينفرد به أي فنان حقيقي مثل الكاتب والمخرج البولندي المخضرم: كريستوف كيشلوفسكي .
"لو كنت نبيًا بدون الحب سأكون كالعدم، الحب صبور، الحب رقيق، الحب يتحمل كل شيء، ويعرف كل شيء". تلك كانت الكلمات التي تنقلها الأوركسترا في آخر أفلامه الفلسفية الشاعرية، المتأمِّلة في العالم أكثر من كونها مفسرة له أو منظِّرة عليه، الفيلم الأول في الثلاثية: الأزرق. وربما تحمل المعنى ذاته أو الألفاظ ذاتها التي جاءت في الإصحاح الثالث عشر من رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كرونثوس التي تقول: إِنْ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةِ النَّاسِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَقَدْ صِرْتُ نُحَاساً يَطِنُّ أَوْ صَنْجاً يَرِنُّ. وَإِنْ كَانَتْ لِي نُبُوَّةٌ وَأَعْلَمُ جَمِيعَ الأَسْرَارِ وَكُلَّ عِلْمٍ، وَإِنْ كَانَ لِي كُلُّ الإِيمَانِ حَتَّى أَنْقُلَ الْجِبَالَ، وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَلَسْتُ شَيْئاً. وَإِنْ أَطْعَمْتُ كُلَّ أَمْوَالِي، وَإِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلاَ أَنْتَفِعُ شَيْئاً، الْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَحْسِدُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ، وَلاَ تَنْتَفِخُ، وَلاَ تُقَبِّحُ، وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا، وَلاَ تَحْتَدُّ، وَلاَ تَظُنُّ السُّؤَ، وَلاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَق وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَداً... وَأَمَّا النُّبُوَّاتُ فَسَتُبْطَلُ، وَالأَلْسِنَةُ فَسَتَنْتَهِي، وَالْعِلْمُ فَسَيُبْطَلُ.
قبل أن نحاول استحضار كل هذا الحب الذي يحمله المخرج البولندي الذي مات بعد استخدام تلك الكلمات بعامين فقط، ربما سنحتاج إلى معرفة الطريق الوعرة التي سلكها؛ لإظهار كل هذا الحب الزائد عن حاجة العالم المادي الكبير الذي عاشته بولندا وقتها ولا زال يعيشه العالم اختار أن يحكيه اختار أن يحكيه في إطار قصص لا يربطها الحب قدر ما تربطها الخيانة، الصفة التي اعتقد أن تقف في مواجهة الحب أكثر من الكره الصريح.
كثير من الفلسفة قليل من التفسير
كان يمكن أن تتناسى بطلة "الأزرق" توترها وحيرتها بعد موت الزوج والابنة إذا تناست فقط قليلًا من الحب، وكان يمكن أن تبقى البطلة الثانية بالأبيض الخالص والاكتفاء به دون غيره باستجداء القليل من الحب، وكان يمكن أن تستمر فتاة "الأحمر" في حياتها بدون سلك حياة جديدة لولا الحب الذي الذي يتملّكها تمامًا. كل هذا الحب لا تظهره سوى خيانات متتالية تتكشف واحدة تلو الآخرى للبطلات الثلاث؛ التعرف على وجود عشيقة للزوج المتوفي في الأولى، والتصريح بوجود عشاق مختلفون لتعويض الضعف الجنسي الذي يعيشه الزوج في الثانية، وأخيرًا معرفة التلاعب الذي يقوم به البطل وخيانته للفتاة الهادئة التي تحبه دون غيره في الثالثة.
ثلاثة أبطال تبدأ الكادرات الأولى لقصصهم على الطريق، دون فواصل أو تمهيد للحكاية يجد المشاهد نفسه متورط مع الكاميرا والحكاية والأبطال، الجميع أمام تأملات فنية لمخرج يلقي أفكاره الأخيرة قبيل احتضاره.
حرية مشروطة ومتوهمة عاشتها الأرملة التي حاولت التخلص من حياتها بعد موت حبيبها، والمشاركة المنافقة التي توهمها مواطن بولندي مهاجر أحب فرنسية في فرنسا، والمساواة المتخيلة التي حاولت بطلة بالأحمر تحقيقها، كل تلك الخيانات والأوهام لم يحكمها سوى الحب، المحرك الأول للعالم برغم كل شيء وبصرف النظر.
"عبر مجموعة من الأفلام يجب على المخرج أن يظهر خصائص أسلوبية محددة تعاود الظهور والتي تقوم مقام توقيعه"، شخص ما بلغ من العمر أرذله يحاول أن يلقي بزجاجة فارغة في صندوق قمامة؛ المشهد ذاته في الأفلام الثلاثة؛ الأولى غير عابئة بالمشهد مغلقة لعينيها، الثاني يضحك للانتصار ونجاح محاولة العجوز إلقاء الزجاجة من مكانه، والأخيرة تذهب بطاقة الحب كاملة تأخذ الزجاجة من العجوز وتلقيها، وربما هو المشهد الوحيد الأكثر مباشرة ووضوحًا لمعرفة شخصيات الأبطال وردود أفعالهم التي سنبني عليها فيما بعد ردود أفعالهم تجاه الخيانات التي ستصدمهم أمام الحب الذي يحملونه وربما كتوقيع صريح للمخرج نيابة عن أبطاله.
الأفلام تصبح فقط أعمالًا فنية بالمونتاج والسينما في أفضل لحظاتها تجعلنا غير معتادين على المونتاج واستخداماته المتداخلة في صناعة العمل الفلسفي التعبيري كأفلام اختار كيشلوفيسكي صناعتها. كل شيء يعتمد على الصورة بحيث يتلاقى العالم الفانتازي للماضي مع العالم الحالي، أدرك بأن تقنية الصورة ستحدد مصير السينما "حيث يلعب الضوء والظلمة والسينما الدور ذاته للإيقاع والأنغام في الموسيقى" هكذا قال إيزنر في المجلد الكبير "تاريخ للموسيقى السينمائية". الموسيقى السينمائية التي جاءت في الثلاثية لتشبه مصباح صغير تضعه وراء الشاشة لتدفئتها.
مسيرة حالمة لمخرج فذ
ثمة دعابة فلسفية قديمة تقول أن أحد أساتذة الفلسفة كان يلقي محاضرة في الدفاع عن "الإنانة"، وهي باختصار نظرية تعني أنه لا يوجد سوى عقل واحد فقط، وكل ما يبدو لنا على أنه حقيقة خارجية وإناس آخرين هو علم يأخذ مكانه في العقل وليس حقيقة، أقنعت المحاضرة الطلاب لدرجة أنه بمجرد الانتهاء منها توجه بعضهم في حماس يشدّوا على يد أستاذهم ويبدون إعجابهم به، قال واحد: أنا متفق مع كل كلمة. وقال الآخر: وأنا كذلك. فقال الأستاذ: أنا ممتن جدًا، إذ من النادر أن يصادف المرء فرصة الالتقاء بمن يعتقدون في الإنانة. وهو رد بمثابة دعابة عبقرية؛ يصلح كمضاد للنظرية المُعجَب بها ذاتها، والتي لا تعتقد سوى وجود عقل واحد بين الجميع؛ فإما أن يكون الأستاذ فقط هو الموجود والطلبة وهم في خياله وهنا تنتفي مساهمات إعجابهم بذكائه، وإمّا أن يوجدوا ويصبح الإعجاب موجه للعدم، ومن ذلك يعلم معظم دارسو الفلسفة أن هناك بعض القضايا غير قابلة للدفاع عنها وإبداء الإعجاب بها أو تدميرها كليًا، هي معضلة أبدية ستظل كذلك، وربما هي معضلة الحب ذاتها التي يؤكد رفضه ذاته على مشاعر تؤكده، تأملات خيانات الحب لدي كيشلوفسكي لم تؤكد سوى الحب مرة أخرى، تنتج ذاتها فلسفيًا رغم محاذير نبذها.
السؤال الفلسفي الوجودي: لماذا أحب رغم احتمال الخيانات غير القابلة للحصر؟ يبقى تساؤل مستعصي على الإجابة، يكفينا التعامل معه من بعيد مثلما تعامل الفلاسفة مع نظرية الإنانة، تأمله من بعيد مثلما فعل كيشلوفسكي، الموافقة عليه تعني المخاطرة ورفضه يعني الوقوع في شباكه بشكلٍ ما؛ كلاهما غير قابل للدفاع عنه وإبداء الإعجاب به أو تدميره كليًا، تبقى الحيرة معنا رغم المتعة التي حققها الفيلم كأي عمل فني مخلص لا ينظّر فقط، يتأمل ويتساءل ويترك الإجابات لكل مشاهد يقرر وحده.
Comments