في البدء كان «البيت»
- Hossam Elkholy
- 10 يونيو 2020
- 9 دقائق قراءة

منذ سنوات، كنت أقضي عدة أيام مع والدتي في منزلها، صباح رائقٌ وهواء عليلٌ وطعام ساخن ومجاني. جعلتني تلك الإغراءات أمدّد أيام إقامتي. ذات يوم، كنت أجلس في غرفتي القديمة، طرقت الباب ودخلت، وجدتني مسحورًا أمام الكمبيوتر لا أُلقي لها بالًا. «هتاكل إيه يا سمسم؟»، تساؤل يستفزني منذ صغري زاد إزعاجه عندما طرحته وأنا أعمل، فطلبت منها -على وجهي ابتسامة صفراء لزجة- أولًا ألّا تسألني هذا السؤال أبدًا مرة أخرى، ثم أن تخرج وتغلق الباب لأن «عندي شغل». وقتها لم تكن تعرف شيئًا عني سوى ترك عملي بالتلفزيون والبقاء في البيت. أرجعتْ قراري للعنة كتب الفلسفة التي ابتلعتني بأفكار غبية وضيعت مستقبلي، لكن سماع أني «أعمل» من داخل غرفتي جعلها تُضيّق عينيها وتصمت تمامًا لثوان وهي تقترب منّي صارخة بحدة «أنت بتشتغلني يلا! هو في حد بيشتغل من البيت!». وكررت اتهامها الأزلي بأن الفلسفة جننتني.
كل تساؤل أصيل يبدأ من الفلسفة عليها السلام. «من نحن؟ كيف نعيش وسنعيش؟ هل تناسبنا هذه الفكرة أم تلك؟»، وغيرها من الأسئلة التأسيسية التي يتحرك الإنسان بناءً عليها، سواء طرحها بوعي أو بدون. لذلك، ومع وضعنا الكوروناوي الحالي الذي أجبر معظمنا على إنجاز عمله من البيت، ثمة تساؤل فلسفي ثاقب وعابر للقارات طرحه «ماريا كرامر» و«ميهر زافيري» فتح الباب لمن طرحوا السؤال ذاته في الخفاء، ووضع خطوات ستستمر معنا في العالم القادم (إذا كان هناك ثمة عالم قادم، قولوا آمين). ماذا لو أحببت العمل من المنزل ولا تريد العودة لمكتبك؟ هذا التساؤل المركب الذي فرضه الظرف التاريخي، سيجعل كل محتقري العمل من المنزل كوالدتي وغيرها يعيدون تفكيرهم، وستُطرح أفكار جادة حول تنفيذه على الأرض آنيًا وعدم اعتبارها مؤامرة على الإسلام أو شيء من هذا القبيل. لذلك جلبته مع إرهاصاته وسلطاته طازجًا «يستاهل بُقك» لأفتح حوارًا فلسفيًا عمليًا على غير عادة الفلسفة، «ما هو البيت؟ ماذا كانت وظيفته الأولى تاريخيًا؟ كيف سيصبح في المستقبل؟ وهل يصلح كمكان مُنتِج هنا والآن؟».
«جدران بتحضن جوّا منها قلوب كتير»
منذ بدأت الفاجعة، زادت الأحاديث حول المساحات المكتبية وجدوى العمل من المنزل أكثر من أي وقتٍ مضى. على سبيل المثال، وتحت عنوان «نهاية المكتب؟ فيروس كورونا قد يغيّر شكل العمل للأبد»، قال ربع المديرين التنفيذيين لبعض الشركات الكبرى إنهم يدرسون تقليص النفقات العقارية إلى جانب اضطرارهم خفض التكاليف العامة في شركاتهم. كما اقترح الرؤساء التنفيذيون خفض المساحات المكتبية لتقليل نفقات الإيجارات والمصروفات الأخرى المتصلة بها، نظرًا لإثبات الموظفين أن بإمكانهم العمل من المنزل بكفاءة.
صحيفة «نيويورك تايمز» أشارت إلى أن تصميمات مساحات العمل المفتوحة قد تصبح فكرة بالية وغير مهمة مستقبلًا. بعدها قدمت وكالة «رويترز» قصة مشابهة حول فكرة مساحات المكاتب قبل كورونا وكيف سيصبح ذلك شيئًا قديمًا وغير مناسب.
نُزيدكم من الشعر بيت مع تساؤل صحيفة «وول ستريت جورنال» عما إذا كان أصحاب الشركات سيفرضون المزيد من إجراءات وتقنيات المراقبة في أماكن العمل تحت مسمى الحفاظ على صحة الموظفين. وفي غضون ذلك، عرضت إحدى الشركات العقارية تصميمًا جديدًا تقترحه لمكاتب عالم ما بعد كورونا، والتي قد تكون في البيوت.
على ما يبدو، يمكننا أن نشعر ببعض الحظ لأننا نعيش في عالم إلكتروني يمكن إنجاز كثير من وظائفه منزليًا بعكس الدمار الذي كان يُحدثه تفشّي الفيروسات أو الأوبئة أمثال كورونا اللعين قديمًا. رغم ذلك، يوجد كثيرون لم يقتنعوا بعد بجدوى العمل من منازلهم. كافرون بالنعمة.
«فيه جنان جوّا دماغنا الآن/ احنا خرجنا عن السيطرة»
الخبير الاقتصادي الأمريكي نوريل روبيني حذر في مقالة «البجعات البيضاء لعام 2020» في فبراير الماضي من أن العالم على وشك أن يشهد تفشي أحد الأوبئة، وأن الأسواق العالمية تتجاهل العديد من الأزمات العالمية المتوقعة هذا العام. من وقتها، تتحسس شركات التكنولوجيا خُطاها وتراقب في صمت لمسايرة الأوضاع التي قد يُحدث أي تغيير فيها زعزعة استقرارها بشكل مدمر قد لا يُحتمل. شركة «تويتر» كواحدة من أشهر شركات العالم المعولم، كانت أول شركة تكنولوجيا كبرى تسمح لموظفيها بالعمل من المنزل للأبد كتأسيس لتغير جذري تشهده ثقافة العمل العالمية.
في أحد الاستطلاعات المثيرة، أكّد أصحاب الشركات العاملون في مجالات مختلفة، الذين اعتمد عليهم البحث، فاعلية العمل من المنزل عن غيره، تحت عنوان: «هذه الوظائف ستستمر من المنزل بعد انتهاء أزمة كورونا». قال عدد من العاملين إن إنتاجهم زاد مع تجربة العمل من المنزل، وأنهم لا يجدون أزمة في ذلك الأمر على عكس توقعاتهم الأوليّة.
«ليل المدينة حزين ليلها في غاية الألم»
في المجلد الذي تتجاوز صفحاته ألف صفحة، «المدينة على مر العصور.. أصلها وتطورها ومستقبلها»، كتب المؤرخ لويس ممفورد ما ترجمه إبراهيم نصحي للمركز القومي للترجمة حول بدايات نشأة مفهوم «البيت» منذ فجر التاريخ؛ تعريفه وتغيّر وضعه على مر الزمن. سنذهب في جولة من خلال الكتاب للاطلاع على تاريخ العمل المنزلي القديم بعدما أصبحت إعادة تعريف «البيت» مؤسِسِة لفهم التأقلم مع العالم ما بعد كورونا.
«كيف ظهرت المدينة في الوجود؟»، هذا تساؤل على رأس تسلسل هرمي عليك أن تتناول بعض المقبّلات قبل الحديث عن إجابته، وسنحاول تبسيطه قدر الإمكان لفهم علاقته بحديثنا عن «البيت» والعمل المنزلي الذي كثفته أزمة كورونا، وربما يكون إحدى مميزاتها، إلى جانب رحمة الطبيعة من التلوث المستمر التي يشعر بها كثيرون الآن.
«أهلك يا تهلك دا إنت بالناس تكون»
دوافع الإنسان للاستقرار تمامًا مثل الحيوانات والطيور؛ الطيور تتعلق بعش بعينه وتعود إليه بعد كل موسم، والحيوان يتعلق بالمنزل ذاته. بحسب اعتقاد المؤرخ، فمدينة الأموات سبقت مدينة الأحياء، إذ كان إجلال الإنسان القديم للموتى باعتبارهم أول من ظفر بمأوى ثابت في كهف هو ما جعله يفكر في مكان ثابت للعيش لأنهم في أثناء تنقّلهم المستمر كانوا يحتاجون للعودة إلى أرواح أسلافهم الأموات كل فترة.
على ذلك، تكوّن وعي الإنسان للعيش في مكان ثابت وأخذ أشكالًا عدة. قبل وجود المدينة، وُجد الكَفر والقرية، وقبل القرية وجد المخيم والمخبأ والكهف والمغارة، وقبل هذا كله ظهر الميل إلى حياة اجتماعية عمومًا.
قبل معرفة الإنسان الصيّاد المتنقل كيفية استخدام الدخان والملح لحفظ الطعام، كان عليه أن يلزم التنقل في جماعات لا تعوقها أمتعة ثقيلة ولا يقيدها مسكن ثابت. لكن مع معرفتها، أصبح يميل أكثر للاستقرار. ومع انحسار عصر الجليد الأخير، زادت الثروة الغذائية. ومع سهولة وجود القوت، زاد الإحساس بالأمان وزاد وقت الفراغ. وبالتأكيد والبديهة، زاد احتياجه لأروش شيء في الوجود: ممارسة الجنس أكثر من الماضي. وتحولت سيطرة وصدارة الرجل الخفيف السريع المتحفّز للقتال، بعد زيادة الترهلات والدهون عليه، للأنثى الأم المعتنية بالأطفال التي ترعى النبات و«تعزق» الأرض وتحصد الزرع وتغذي الجميع «حتى أنها تُرضع صغار الحيوانات أحيانًا عندما تموت أمها»، بحسب المؤرخ، حتى أنه في اللغة الهيروغليفية المصرية، ترى الرموز التي تشير إلى البيت/القرية/المدينة هي ذاتها التي تشير إلى المرأة. أصبح الاعتماد على بيت ثابت أمر إلزامي لا بد منه.
«كلنا جيرة وعِشرة وأهل وخلّان»
وجود الإنسان وسط مجموعة في قرية سمح له بالبقاء بجانب عمله وأسرته معًا. قطعة الأرض التي تكفي قوت الأسرة عادة ما كانت في المنزل نفسه الذي يعيشون فيه، وكان ذلك يدفعهم إلى إنجاب أطفال أكثر للحفاظ على عملهم القريب منهم في القرية التي تجمعهم بجيرانهم وأصدقائهم وبيتهم الكبير الذي يمثّل مصدر الأمان. أصبحت الحياة فقط من أجل البقاء والتوالد للاستقرار في «البيت». حتى بعد بداية «العصور التاريخية»، كان للعضو التناسلي عند الرجل والمرأة دور كبير في الطقوس الدينية التي تقام في القرية، ثم أخذ شكلًا آخر في المدينة متنكرًا في شكل المسلات والأعمدة والأبراج وقباب المباني. بل إنه، وبشكل واضح ومكاشفة علنية ورمزية أقل، ظهر النصب الضخم «ديلوس» في صورة عضو تناسلي منتصب، «واللي يخاف يتاكل حاف».
حياة القرية تكمن جذورها بين الميلاد والمكان، «بين الدم والتربة». مكان العمل في المنزل أو يكاد، والجار يساعد في كل شيء، ولا حاجة للخروج بعيدًا والتعرف على غرباء. بل إنه مع الوقت، سيصبح ذلك خطرًا مهددًا في عقل القروي. فالقرية عبارة عن مجموعة من الأسر، كل منها لديه مسكنه الخاص، هيكله الخاص، أرضه الخاصة، مدفنه الخاص، بل إلهه الخاص، و«كل من يتطلع في وجه جاره لا يرى إلا صورته الشخصية». أو كما وصف المؤرخ لاو تسي، هدفهم الأسمى «الابتهاج بطعامهم، والزهو بثيابهم والفرح بعاداتهم والقناعة ببيوتهم».
«عم يا صياد رميت شباكك فين؟»
هذه «الأنتخة» ولّدت لدى القروي جُبنًا وضعفًا أمام مواجهة مخاطر الحياة القديمة. كانت فرصة الإنسان الصياد الذي لم يلجأ لتكوين أسرة والاستقرار في بيت أن يستغل خوف أهل القرى على أطفالهم من الوحوش المُغيرة على القرية. وأخذ الصياد دور كلب الحراسة الذي كثيرًا ما كان يقوم بدور الذئب للحفاظ على تخويف الفلاحين أكثر لاستمرار الحاجة إليه حتى دون حاجة، فقط لأخذ «إتاوة الحماية». ومع الوقت، تحول السلاح من قتل الحيوانات المفترسة لتهديد الفلاح بالحصول على إتاوة أكبر. انتصر الصياد بفضل جرأته وضعف القروي الشديد تجاه حياته الآمنة وبيته الصغير الذي يلاصق عمله.
«تحت السجر يا وهيبة ياما كلنا برتقال»
السكن والاستقرار في مكان واحد وجد أحدث أشكاله في المدينة التي كانت ولا تزال قادرة على اجتذاب غير المقيمين فيها مقابل ما قبلها من كَفر وقرية: الأماكن تعادي الغريب عنها بحكم جمود تكوينها وانطوائها على نفسها.
وفقًا للمؤرخ، «إذا كانت المدينة صغيرة جدًا، فإنها تظل قرية مهما بلغت روعة العمارة، وإذا تجاوزت حدود النمو واستوعبت عددًا من الناس أكبر مما تستطيع إسكانهم وإطعامهم وحكمهم وتعليمهم على الوجه الملائم فإنها تغدو مدينة». في القرية، يلجأ القروي للإنجاب للحفاظ على عمله ودعمه الشخصي، بينما المدينة جزء من تركيب معقد يمكن فيه استبدال أي فرد بغيره في العجلة.
أدّى نظام تقسيم العمل والفصل بين الوظائف إلى أن أعمالًا كان يؤديها أهل البيت الواحد «نتيجة عملهم المنزلي كالنوم والشراب والأكل والكلام والمضاجعة والتعليم» أصبحت مفصولة في أحياء محددة، وفقًا للمؤرخ. أصبح الفندق والحانة والسوق والمعبد والمدرسة وبيت البغاء تحت إشراف محترفين متفرغين لإدارتها. فالمدينة موجود فيها كل شيء لكنه منزوع من سياقه، منفصل لا يؤدي غرضه: الاستقرار والكفاية للجميع. قريب وبعيد في الوقت ذاته، أو بتعبير سعيد صالح «كل حاجة سليمة بس لوحدها، كل شيء مستقل بذاته».
واحد من التعريفات الأولى لمفهوم المدينة وسكانها، وفقًا للمؤرخ، أنهم «سكان مزرعة في أَسر مستديم» يسعى ملكهم للاحتكار الاقتصادي والسياسي. يقيم قصرًا كبيرًا، ويقيم الشعب حصونهم حوله للعمل بالقرب منه ومصالحه بعيدين عن منازلهم. ومع خطر وجود الحروب والإغارات، كان اللجوء إلى مدينة والاحتماء بها يمثل شعورًا بالأمان ولو زائف، وثقة غير محدودة في القيادة ولو في غير محلها وأصبحت الإقامة في مدينة «بمثابة الحصول على مكان في الموطن الحقيقي للإنسان».
كما أنه في القرية، الكل معروف للكل دون سعي لذلك «فلا أحد فيها يقول يا ليتني لأن صغار الناس كالعظماء»، بعكس المدينة التي يبذل أفرادها دمهم فقط لتتناقل الألسنة أسماءهم في حديث عابر أو بتعبير الفيلسوف الأكثر رومانسية في التاريخ جان جاك روسو أن المنازل تؤلف قرية لكن المواطنين يؤلفون مدينة.
إذًا، مع وجود المدينة، ظهرت قسوة العمل وساديته، ونُظّم على أساس أن يؤدّى يوميًا قدر معين من العمل الشاق المتواصل تحت إشراف رئيس يحدد لكل عامل نصيبه، فاتجهت عقول الناس للكفاح والسيطرة والسيادة والفتح نتيجة تقديمها وظائف كثيرة بعكس الحياة القروية باعتبارها تمثّل وعاءً لوظائف أضيق نطاقًا نتيجة العمل المنزلي أو الملاصق للمنزل الذي لا يحتاج تنقل.
يا فلاح مش أنا ليلى
في وصفه لمدينة روما، وكتفرقة بين الطبقات تصلح للحديث عن المدن عمومًا، يقتبس المؤرخ كلمة زميله المؤرخ بترونيوس: «إن حال صغار الناس [في المدينة] سيئة لأن أنياب الطبقات العليا منهمكة على الدوام في النهش». فحتى مع دخولنا إلى مدينة العصور الوسطى، كانت الوسائل الصحية البدائية في القرية تفوق المدينة. يقول إن بيتًا ريفيًا لم تكن توجد فيه وسيلة لإزالة أكوام السماد العام -روث الحيوانات- الذي لم يكن يشكل تهديدًا على الصحة العامة يماثل جسامة الخطر الذي يهدد المدينة التي رغم كونها تنعم بمراحيض في كل مسكن لكنها كانت مليئة بمياه للشرب مستمدة من النهر عينه الذي كانت تفرغ فيه المجاري، هكذا زيتنا في دقيقنا. كان الرومان يهتمون بإقامة حفلاتهم والاستعراض المذهل بالتقدم حتى وصفت مدينتهم بكونها أكبر معرض على وجه الأرض، في الوقت الذي كانت جثث الموتى ترمى بلا غطاء، وأطفال حتى عمرهم المتقدم يُجرون عاريين في الشوارع للذهاب إلى الحمامات العامة. وحتى روث البهائم الذي يمثل مصدر إزعاج الشاب المديني عند ذهابه للقرى يمكن مقارنته بروائح الحشود الكريهة في المدن.
بمرور الزمن وتطور تواجد المدينة، وبالتالي ازدياد الفجوة بين الطبقات، أصبحت المنازل أساسًا ملكًا لأبناء الطبقة المتوسطة وما يعلوها اقتصاديًا فقط، مقابل كثيرون محرومون حتى من «بيت»، يحتشدون في العواصم لعرض خدماتهم لقاء أي عطاء يقبلونه فقط لعدم امتلاكهم «بيت» يمثل الحد الأدنى من الأمان. وبعد أن كان العمل المنزلي يوفر كل شيء، أصبح عدم وجود منزل سبب مؤسس لظلم وذل مقيم يقع على كاهل كل فقير منبوذ من العالم، بينما تحول البيت ذاته إلى مكان لقضاء أوقات الفراغ. فُصل المنزل عن مكان العمل وتوزّعت المهام التي كانت تخرج من المنزل أساسًا كالإنتاج والبيع والاستهلاك لتمارسها فئات منفصلة. تحوّل المنزل إلى «منظمة استهلاكية» وظهر بناءً على ذلك «المنزل الخاص»، أي المنزل الذي لا يمارَس فيه عمل ولا يتصل بأي وسيلة من وسائل إقامة الحياة الحقيقية.
«كيف حالك يا جار/ لو تعرف شو صار»
لسد الفراغ الناشئ من عدم وجود عمل منزلي مثل العمل المنزلي القديم المثمر الساخن أبو سمسم، ابتكر إنسان هذا العالم نوع جديد من العمل المنزلي ملأ «حياة الكسل» وزاد من مظاهر الاستهلاك، هو الاعتناء بالأثاث المنزلي. كانت محتويات المنزل معروفة وثابتة؛ مقاعد للجلوس وأسرّة للنوم وأيقونات للصلاة والله يحب المحسنين. لكن «الفراغ التام» لدى أغلب الأسر التي كان في استطاعتها امتلاك منازل، وأظهر الاحتياج للفازات والمصنوعات المعدنية والستائر والتحف، السبب في اختراع «النيش» ومحتوياته.
وبعكس القرية التي كانت تخصّص يوم واحد للتسوّق -لأن العمل المنزلي كان يوفر كثيرًا- أنتجت المدينة التسوق اليومي لتبادل حركة البيع والشراء في ذاتها دون هدف، وقضت بأن نرى سيدات يقضين يومهن كله في المشي بين الأسواق للشراء أو دونه. بينما، ونتيجة لذلك، لم يتبق للفقراء سوى الجوع والبؤس والذل الذي يجعلهم يقبلون بأي شيء؛ من لم يمتلك منزلًا سيقبل بأي شيء، كانت قاعدة قديمة زاد عليها بعد ذلك أنه حتى لو امتلكت منزلًا سيبعد عنك العمل ليصبح منزلك لا يوفر لك ماديًا ما كان يوفره من إقامة مجانية وسهولة وصول؛ أي «بلا قيمة» من هذه الناحية.
ربما لم تكن تعلم أمي شيئًا بشأن قصة بداية الخلق ومركزية البيت والعمل المنزلي الذي كان التنازل عنه أساسًا أصل كل بلاء وعماء، وربما حانت الفرصة لنعيش عيشة أهالينا القدامى، «ومن خرج من داره اتقل مقداره». فيا أمي ويا أيتها الأم الثكلى ويا أيتها الزوجة المترملة ويا أيها الابن الذي فقد الأخ والأب، يا كل ضحايا كورونا، دعونا نفكر من داخل غرفنا ومنازلنا في الوضع الأكثر ملائمة الذي يناسب حياتنا الحالية، وفي عدم استغراب أو استنكار العمل المنزلي. وربما تمر سنوات، أتزوج وأُنجب شاب يافع محدود الذكاء بعكس والده، أدخل عليه غرفته ذات يوم وهو يتجهز للخروج بحجة الذهاب للعمل، ووقتها سأصرخ في وجهه أقوى من صراخ والدتي وأقول: «إنت بتشتغلني يلا! هو في حد بيشتغل برّا بيته!». أين فلسفتك يا مجنون؟
نُشر في مدى مصر.
Comments