top of page

aboutMe

Egyptian writer and photographer, graduated from the Faculty of Media and Communication Arts, Radio and Television Department, interested in writing in philosophy, literature and film criticism.

«كورونا»؟ على الله

  • صورة الكاتب: Hossam Elkholy
    Hossam Elkholy
  • 27 مارس 2020
  • 9 دقائق قراءة



كنت مراسلكم المتواجد في إحدى قاعات الأفراح التي خالفت الحظر بتنظيم حفل زفاف داخلها في طنطا بمحافظة الغربية. سأصف لكم الوضع: باب القاعة كان مغلقًا تحسبًا لأي خطر. يوجد فرد أمن بالخارج لمراقبة أي غريب قادم. الكاميرا في يدي قدمتني باعتباري مصور الحفل فسُمح لي بالعبور. طرق على الباب ثلاث مرات قبل أن يفتح، ربما كإشارة متفق عليها مسبقًا مع من في الداخل. رجل الأمن أخذ نَفَس من سيجارته التي أشعلها للتو، فتح الباب بيد ورفع سيجارته إلى فمه بالأخرى. كان يغمض إحدى عينيه القريبة من الدخان، فنظر إليّ بطرف عينه الأخرى مع نصف ابتسامة تنتظر إعجابي بذكائه. أبعد وجهه ببطء ثعلب ماكر وأمسك زجاجة ديتول بجانبه ليرش بها عليّ وعلى الكاميرا ليباركها. نفخ دخان سيجارته في وجهي وهو يغلق الباب ورائي على خلفية موسيقية لمطلع أغنية «حسن شاكوش» تصلك من السماعات القليلة التي تعمل، وقال: «ولّع الدنيا، مفيش كورونا جوّا».


فورًا وُضعت في يدي قطعة جاتوه وحاجة ساقعة مشبّرة بالأمر المباشر من يد أخرى لا أعلمها كواجب ضيافة مبدئي يسبق تحضير وجبة دسمة. ثم رمى صاحب اليد المضيافة قبلة في الهواء في أشار إليّ بـ«مد إيدك ما تتكسفش».


انتابني إحساس أن هناك اتفاقًا ضمنيًا داخل القاعة بين الأهل والمعازيم الذين اعتبروني فور دخولي واحدًا منهم ولا أمثل خطرًا محتملًا ومنطقيًا في ظروفنا، وهذا الاتفاق يتجاهل العالم الخارجي وذعره من عدوى «كورونا»، المشهد كاملًا في خيالي كان يتجاوز قدرة والدتي مثلًا على الفهم؛ فإذا كانت تعتبر وجودي المعتاد في منزل بمفردي وأكلي من الشارع في أيامنا هذه يشبه الانتحار، فماذا ستفعل إذا رأتني في وضع مخل كهذا! لكني أعتقد الموقف أعقد من ذلك؛ ليس لدواعي أكل العيش لديّ ولا للفرحة المسروقة التي يعيشها زملائي أبناء القرية الانتحاريين الذين لم يقصدوا ضرر أنفسهم أو غيرهم ولا يدركوا خطر وعواقب ما يفعلوه عمومًا، بل أكثر من ذلك على ما أظن.


مساحات التفكير والتأمل في أفكار ومشاعر البشر وما يدور حولنا عمومًا تجد متسعًا غير معتاد من الوقت في ظروف كتلك التي نعيشها في ظل وباء «كورونا» الذي لا نعرف عن سبل الوقاية منه حتى الآن سوى الإقامة في المنزل وعدم الاقتراب من أي غريب -جسمًا أو جمادًا- حتى إشعار آخر. يتوقع العلماء أننا أمام وباء مرعب قد يقعدنا في بيوتنا ليس فقط لأيام كما نظن بل شهور وشهور، إذا لم نُفاجئ بحل من أطباء العالم.


هنا والآن تُطرح تساؤلات بخصوص «جريمتنا» العدمية. لن تخلّصنا من الوباء على أي حال ولن نسقط بها إلى حفرة الأسئلة الوجودية -غير الضروري طرحها للأسف- لكن لنفكّر معًا من غرفنا الصغيرة المتباعدة ونتخذها كأرضية تجعلنا عند مستوى متقارب نرجو أن نتحرك منه للأمام سويًا: كيف يفكر إنسان يعيش معنا ويملك ما نملكه من وسائل تواصل اجتماعي وإعلامي يرى ويسمع ويقرأ كل الذعر اللحظي الذي تتسبب فيه وفيات ومصابي «كورونا» بينما لا يتحرك له ساكن؟ ولماذا؟ وهل هناك جديد كشفته أزمة «كورونا» له أو لنا؟ وما حدود وعيه بلا مبالاته، تلك التي تتجاوز دخوله أي صيدلة منذ بداية الوباء لشراء علبة مناديل؟


اترك منطقك بالخارج وادخل معي دون شروط بقدمك اليُمنى لعالم آخر له منطقه وسياقه الذي نحاول التفكير فيه وفهمه دون تنظير استشراقي يسطّح الأشياء بثقة مبنية على شهادة من الجامعة، متجاهلة مدرسة الحياة.




العالم قرية صغيرة ليست مصرية

أمام نوستالجيا الجمال الريفي المبني تخيّله دائمًا من أفلام تجارية قديمة، فالريف الآن غالبًا لا يختلف عن المدينة كثيرًا سوى في نسبة قليلة من نقاء الهواء والأشخاص داخله، بينما يشارك المدينة قبحًا مختلفًا نسبيًا. الأخيرة مختنقة موءودة زحامًا، والقرية مزروعة بتشوهات عمرانية صلعاء غير مُهندسة، وشوارع تملؤها القمامة وتفوح منها رائحة يمكنها تخديرك. هذه الصورة عامة لها استثناءات بالطبع في الحالتين، لكن يمكن البناء عليها. أعرف أن هذه البداية تبدو مزعجة، لكنها ضرورية لاتخاذها كنقطة انطلاق للحديث عن واقع أبناء القرية بشيء من الفلسفة التي أحبها لكن دون تزويق وخيال فارغ.


الفكرة الجوهرية العدمية التي يتفاعل بها هذا الكائن العدمي وجسده المتعدد الذي لا يسكن الريف فقط، بل يمكن رصده كظاهرة بشرية مُتأملة من هناك حيث يوجد، ونماذج تشبهه ولا تشعره بغربة، يجوب أقاصي الصعيد حتى الإسكندرية، يوجد منه الكثير في المدينة. ظاهريًا، وبعد وقت مستقطع للحديث معه، تجده يشترك في وضع مادي ومعنوي وثقافي مماثل لقرينه في بلد آخر؛ يدور في ساقية عمل لا يجني منها شيئًا يذكر. بعيد منذ زمن عن أي وعي نفسي أو صحي حقيقي. يملك موبايل وإنترنت وتلفزيون ويعرف ما يدور في العالم ويعتبر نفسه خارج سياق كل ذلك.


رأيته بعيني يردد الكلمات ذاتها في أربع محافظات مختلفة بخلاف القاهرة التي أعيش فيها، والجيزة التي أتحرك خلالها كقاهرة موازية، والتي أجبرني عملي على التنقل خلالهم جميعًا منذ بداية حصار «كورونا» للبشرية جمعاء.


مع أي حديث يشتبك فيه صاحبنا عن لزومية الحجر الصحي والاستخدام المستمر للمطهرات والكمامات، باستثناءات محدودة، سوف نستمع لنبرة السخرية ذاتها. الشباب والكهول والنساء في طنطا مثلًا كان الحديث معهم ربما يحمل نفس الردود في المنوفية والقليوبية والفيوم. ليست نفس الردود في فحواها العام ومعناها الأشمل ومجازها العميق حول تجاهل الفيروس وتجاوزه، لكن بالصيغة نفسها التي تُختتم بـ: «على الله».


الأشياء ذاتها باختلاف الموقف سمعتها وقت ثورة 25 يناير وإرهاصاتها، في توابعها وخطورة فشلها المميت للبعض تمامًا كالفيروس، وكل تلك الأمور التي كانوا أيضًا يعتبرون أنفسهم خارجها بالمعنى الكامل. أغلب الناس ضمن النموذج المذكور، وذلك دون أي لوي للمعنى، لا يعتبرون أنفسهم أشخاصًا يمكن لهم التأثير في أي حدث أو أي شيء خارجهم يسمعوا عنه في التلفزيون والإنترنت البعيدين عن حياتهم الحقيقية.


عملهم الذي لا تسمح أوضاعهم المالية المخيفة بتركه أو الضغط على أصحابه للجلوس في البيت في إجازة إجبارية مدفوعة منه، ورواتبهم التي لا تعينهم على شراء رفاهيات مثل المطهرات والكمامات تصعّب من التعامل مع هذا الخطر الغيبي بجدية، لأنه بالضرورة لن يتجاوز خطر الفقر الذي يعيشوه يوميًا، ويلمسوه بدرجة تغطي على أي شيء آخر.


في محافظة أخرى بعيدًا عن طنطا الغربية، ومع أناس جدد، كنا نجلس لأمسح عدسة كاميرتي. عندما استشعر القادم نحوي مادًا يده للسلام بترددي في رفع يديّ، ضحك وقال: «هو فيروس كورونا مش بيجي للي مناعته ضعيفة بس؟ الشعب المصري بياكل خرا، خايف ليه يا باشا طالما مصري؟ على الله».




«أنا اللي بيّ جراح أطبّا الكون ما تشفيني»

الباحثة سيلفيا شيفولو في كتابها «الطب والأطباء في مصر.. بناء الهوية المهنية والمشروع الطبي»، الذي ترجمته ماجدة أباظة، ينقل أفكار المصريين في القرن التاسع عشر أثناء انتشار الطاعون التي ربما لم تتغير من وقتها: الوباء هو نتيجة لإرادة الله، وهو عقاب الله الذي لا يسعنا إلا الخضوع له وقبوله، وأن كل إنسان مخلص يذعن للبقاء في بلده أثناء اجتياح الطاعون ويكون على يقين أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، ستُكتب له الشهادة. عندما يعلم أحدكم بتفشّي الطاعون في أحد الأمصار فلا يذهب إليه، ولكن إذا انتشر الطاعون في بلدكم، لا تبرحوا أماكنكم.


هذه النصائح هي مضامين لأحاديث نبوية شريفة منزوعة من سياقها تناقلها الأطباء ذاتهم، وليس فقط الأفراد العاديين، أثناء محاربة الأوبئة في مصر القرن الـ19. لم تتغير. تسمعها الآن بالصياغة نفسها.

لفت نظر الباحثة أيضًا تكدّس الحجاج المسلمين أثناء رحلات الحج، فنقلت حديث الدكتور صلاح صبحي، الذي سافر مرة مع الحجاج آنذاك كمفتش صحي وقال: إذا اعتبرنا أن الملاحة عبر البحر المتوسط في القرن الـ18 عاملًا مهمًا في انتشار الطاعون، فإن انتشار الكوليرا في النصف الثاني من القرن الـ19 كان بسبب الحج وتكدس الحجاج. تكدس يفوق سيطرة أي شيء وإصرار قد لا تعيه أيضًا وأنت ترى نماذج مشابهة نراها الآن مع مخالفة البعض قرارات غلق المساجد.


في محافظة الفيوم، علمت بقصة صاحب محل بقالة كبير في قرية أغلق محله هناك تضامنًا منه مع إغلاق المساجد. بعد صلاة المغرب، استمعت لنقاش عدد ليس قليل من الناس حول قضية جواز الصلاة على المتوفين بـ «كورونا» وكيفية تغسيلهم من عدمها.


الذهاب على الله وبفضله للتعبد وإظهار طاعة يمتثل بها هؤلاء هي عصارة تصور ديني يثق في جدواه وتوابعه لا تهمّشه ولا تسخر منه ولا تعتبر بوجوده من الأساس سوى في أوقات خطرة كتلك.


مع غضب البعض على مواقع التواصل من كل ذلك، أتذكر أزمة الطفل الصغير الذي يتركه أهله في المنزل يفعل كل قبيح بينما يطالبونه بالهدوء والاحترام اللحظي أثناء تواجدهم بين الغرباء، متجاهلين سنوات كان يجب لفت نظره وتعليمه وتوعيته فيها. بالتأكيد هؤلاء ليسوا صغارًا وليس هناك من هو مسؤول تمامًا عن أخطاءهم، لكن تجاهل محدودية تعليمهم ووعيهم غير المسؤولين عنه نتيجة انسحاق ظالم مادي ومعنوي وتهميش متكامل يُخل بميزان أهمية القضايا بالنسبة لهم. ربما هو الأحق بالغضب والسخرية.


في قصة موازية، هناك حكاية أخرى، منذ عشرات السنوات، وقت انتشار البلهارسيا التي كانت تصيب حوالي 70-80% من مجموع الشعب، وتكثر في المناطق الريفية لكنها تصيب أيضًا المناطق الحضرية. توفي أحد العاملين في مصبغة القاهرة، وكان مصابًا بأحد أشكال البلهارسيا الخطيرة. يستنتج الطبيب محمد خليل عبدالخالق في بحثه المنشور في مجلة الجمعية الطبية، والذي أشار له كتاب «شيفولو»، أن 24% من عمال المصبغة مصابون بالطفيل نفسه الذي أدّى للوفاة، والذي يجد سببه الأساسي في قرار الحكومة التي تترك المجاري تصب في قناة الإسماعيلية، ثم تطلب من هؤلاء الفقراء الجياع الجهلاء أن يهتموا بصحتهم، ومع المرض تطالب الأطباء بالتصرف.


الجميع يُهزم في المعادلة الطبية المصرية منذ الإله إمحوتب -أول طبيب مصري في التاريخ- حتى صديقي الطبيب الذي أتوقع إصابته بجلطة أثناء انفعاله في شكوته إليّ منذ ظهور الفيروس.


في السيرة الذاتية «يوميات طبيب في الأرياف» الذي كتبه الطبيب «كرنليوس بقطر» من أكثر من 50 عامًا -لكن تصلح الآن كإسقاط- يقول الطبيب: «أشعر أني لا أستطيع القيام بالكثير لصالح مرضاي، أبذل كل جهدي في محاولة ممارسة مهنتي… ولكنهم ليسوا في حاجة إلى أدوية، إنهم في حاجة إلى طعام وسكن صحي ووعي لاستيعاب مباديء الصحة حتى يحافظوا عليها».


ربما الفكرة نفسها عبّر عنها الطبيب «كامل يعقوب»، الذي عايش الفترة ذاتها مع «بقطر» في الستينات والسبعينات في سيرته الذاتية «يوميات طبيب»، عندما صور القرية قائلًا إن «الحياة فيها ثابتة كالمياة الآسنة ذات الرائحة الكريهة، فالأيام تتشابه والوجوه تتكرر والفلاحون لا يتغيرون مثلهم مثل الأصوات التي تصلني من النافذة وحتى المرضى لا يتغيرون… جهلاء ومتسخون».


امتدت الحياة الثابتة في القرية لتشمل أغلب المدينة أيضًا، بينما أخذ الجهل والاتساخ أشكالًا أكثر تعقيدًا. تحول اتساخ الملابس الواضح إلى عرق أقل إحراجًا تحرقه أجساد أبناء القرية والمدينة معًا من أجل لقيمات تُحييهم ليوم عمل آخر تسلب فيه حريتهم ورفاهيتهم ومردودهم المادي المستحق، وتحول الجهل الخالص إلى مركّب يشبه المعرفة: يعرف الأشياء ويعي بها عن طريق هاتفه وتلفزيونه لكن مشكلاته المادية والنفسية والثقافية تجعله على مسافة من التعامل بوعي معها، فيفضل اعتبارها غير موجودة من الأساس كحل أمثل وأكثر وجاهة.


يترك هذا للأطباء -المنتهك حقوقهم منذ الأزل أيضًا- الصدمة الطفولية الساذجة في مجتمعهم الجاهل. صدمة ليس لطرفيها ذنب أو مقدرة في إصلاحها، ظهرت أدبيًا وسينمائيًا في رواية يحيى حقي «قنديل أم هاشم» وفيلم «سيرة الأبطال» لتوفيق صالح، لتستمر إلى اليوم مع شكاوى أصدقائنا الأطباء التي نستمع إليها بشكل شبه يومي مكرر ممل على القهوة بعد يوم عمل شاق.




عدمية تبحث عن شاب لعلاقة جادة

في كتابها «أساتذة اليأس.. النزعة العدمية في الأدب الأوروبي»، تقول «نانسي هانسن» إنه مع تطور الفكر الأوروبي، كان الطوباويون (أي الحالمون بالمثالية) يرون أنه إذا قيّض للمرء أن يكون مثقفًا، فإن عليه أن يسخّر ذلك في خدمة الثورة. في حين رأى العدميون أنه إذا كانت كل أفعال الإنسان عبثية ومحكومة بالفشل فإنه من الأفضل له الانتحار. لكن هذا اختلف في روسيا القرن التاسع عشر. لم تكن العدمية هناك وقتها تشير إلى هؤلاء الذين ما عادوا يكترثون لشيء، بل إلى الراديكاليين الذين كانت عقيدتهم تتمثل في سؤال «ما العمل؟».


المفكر «يوفال نوح هراري» يعتقد أن القرارات التي سنتخذها اليوم بشأن التعامل مع «كورونا» ستغير حيواتنا في السنوات المقبلة بصورة لم نستوعبها بعد، رغم إدراكنا الكامل لها. عدم الاستيعاب هذا على ما يبدو يسيطر تمامًا على صديقي الظاهرة الذي لا يريد الدخول في حسابات معقدة، بينما أمامه حل أبسط: أن يترك الأمر كله على الله المتجاوز لكل شيء، ويستطيع أن يحمل الأمور كلها دون المطالبة بأي تعليمات معقدة ومكلفة. فيفضّلون عدميتهم التي تجعلهم يخاطرون للذهاب إلى المسجد رغم الحظر.

الإجابة لا تنتظر تلقين الأطباء، يقولها إنسان أكثر إتساقًا مع إمكانياته ووعيه، يملك سياقه الذي لم نأت لنتحقق من مصداقيته ومنطقيته، وينطلق كامرأة في كامل مشمشها بفخر دون تردد، ويسير كعجوز مجرّب بوعي أو غير وعي لكنه ممتليء بيقينه الديني المتجاوز كل الدلائل التي لا تخصه ولا تعطيه أهمية مسبقة ولا تعتبره شريك حقيقي سوى في أوقات الخطر والمصلحة. منطقي تمامًا أن تصبح إجابته هي: «على الله».




«العيب في النظام يا بهايم»

مع قراءات وأطروحات متعددة، كان وباء «كورونا» محورها، تساءل الكاتب نيكولاس كريستوف: هل سنحتمل خسارات تتجاوز مليوني متوفي أم سنتمكن من قلب الأمور قريبًا؟ المقال، رغم حديثه عن الداخل الأمريكي، لكن يمكن القياس عليه للجميع، إذ يعرض كل الفرضيات المحتملة الحسنة والسيئة مع اتّباع العزل والحجر الصحي وكل سبل الوقاية في دولة متقدمة. أتوقع من عدد ليس قليل من قرّاء المقال، وبعد عمل كل الاحتياطات اللازمة، ربما سيفكر البعض أيضًا دون ضجيج، وفي لحظة نشوى منعدمة المنطق المختفي أساسًا، للذهاب إلى نتيجة مُثلى رغم احتمالية إلحاد بعضهم، وبعد الإطلاع على أوراق القضية وسماع شهادة الشهود يبدو فعلًا أن الحل: «على الله».


ربما هذه العدمية لجهل مترسّب لن تصلحه تعليمات فجائية بالوقاية والرزانة واتباع التعليمات، وربما لأنها التي وجدت متنفسًا عدميًا مبرَرًا أخيرًا لتعبّر عن نفسها، وربما لمشكلات تعتقد بتجاوزها للوباء، وربما لأن الطب في العالم كله لا يملك شيء حتى الآن، وربما لأنك كمصري تحديدًا لا تثق تمامًا في المنظومة الصحية والإدارية التي لم تقدم أي عربون محبة يُذكر يصلح كثقة تحتوينا وتحنو علينا من غدر الزمان.

حتى منبع الوباء وأساس الشرور ويأجوج ومأجوج الغلابة، أي الصين نفسها، ستجد داخلها من يتحدث في الصحف عن مخاوف كبيرة تتسامر حول احتمالية مواجهة عنصرية تنحّي الصين تجاريًا «بعد الوباء». وعن ردود ومناقشات أوروبية أمريكية ومؤامرات خفية يتم الترتيب لها فيما هو قادم «بعد الوباء». أقول في نفسي: «بعد الوباء نلقى الصديق الزين/ نتسنّدوا على بعض بالكتفين»، لكن لينتهي أولًا يا شباب.


بعيدًا عن الصين المشبوهة حاليًا. سأبتعد في حديثي عن أبناء المدن المجبرين يوميًا على زنقة المترو والأتوبيس وسكن العشوائيات الضيقة التي تسهل لهم تبادل صحون الطعام من بلكونة لأخرى حتى لا أكون ضيف عدمي وقليل الذوق أيضًا. أكتب إليك من المقصورة الرئيسية من داخل محافظة الفيوم وأنا أشاهد إحدى مباريات دوري كرة القدم في مركز الشباب للقرية، يومها أيضًا ورغم تباعد المسافات تآلفت القلوب وأُقيم السوق المكتظ بالبشر والملابس في أرض القمر أشمون المنوفية، لكن كلاهما قرر التعامل بتكتيكات عكسية: لُعبت مبارايات كرة القدم صباحًا ليس مساءً كالمعتاد، وأُقيم السوق ليلًا وليس نهارًا، على أمل خداع الفيروس. وكما كنّا نجري قديمًا وراء عربة رش البعوض، تلصصت على رجال وشباب القرية كلها يشاهدون عربة تعقّم الشوارع بمطهرات وسط زغاريد نسائية حماسية أضفت بهجة على الجو الكئيب.


نٌشر في مدى مصر.


 
 
 

Comentarios


bottom of page