مايكل هانكه.. سينما تواجه سادية العالم
- Hossam Elkholy
- 16 ديسمبر 2020
- 8 دقائق قراءة

منذ عدة أعوام أنشأ أحدهم حسابًا ساخرًا على موقع “تويتر” ينتحل فيه اسم مايكل هانكِه المعروف بجديته المفرطة وطباعه الحادة والعدوانية. كانت دُعابة لافتة أعادت تخيُّل المخرج “السادي” كشخصية ساذجة محبّة للقطط وتنهي كل تغريدة لها بـ”لول” وضحك هدّام. واجتذبت الصفحة عشرات الآلاف من المتابعين في وقت قليل.
عندما تحدث أحد الصحفيين مع هانكه حول هذا الموضوع، قال: “حاولت قراءة بعض المنشورات لكن لغتي الإنجليزية ليست جيدة بما يكفي، أنا حقًا لست مهتمًّا بما يكتبه هذا الشخص الذي انتحل اسمي، لكنني مفتون بحقيقة أن 25000 شخص قد اشتركوا في هذا الهراء”.
المتابع الجيد لمسيرة المخرج والكاتب مايكل هانكه الذي تخطى السبعين عامًا الآن سيجد طرافة تلك المفارقة؛ اختيار مقابل للشخصية التي تحفل بها كل أفلامه: صامتة وهادئة قبل لحظات من انفجارها، منعزلة وشديدة التعمق في الذات الإنسانية، فتتحول على “تويتر” إلى شخصية ضاحكة دائمًا وساخرة من كل شيء، مع سطحية في التعليق على الأشياء، لافتة للنظر بلا شك. تلك المفارقة صنعها شخص حاد الذكاء، مفارقة صادمة تصف كاتب ومخرج يصدم مشاهده في كل مرة ويضعه كمسؤول عن المأساة في العالم.
في إحدى مقابلاته القليلة التي يتحدث فيها مباشرة إلى جمهوره، وفي مواجهة تساؤلات بشأن السادية التي يغذّي بها أبطاله في كل فيلم له باختلاف زاوية نظرهم إلى العالم يقول هانكه: “إنه العقل نفسه دائمًا، وهو صانع هذه الأفلام، لذلك من الطبيعي أن تتكرر الأشياء… كمؤلف، عليك أن تتعامل مع الأفق الذي تعرفه وإلّا فإنك تنتج الكليشيهات فقط”.
في فيلم “funny games”، يلتفت هانكه فجأة، متقنعًا بشخصيته الرئيسة، إلى الكاميرا ليتحدث مباشرة إلى المشاهد المتوقع، يسأله “ما الذي تنظر إليه ولماذا؟”. وفي فيلمه Das SchloB عن رواية الكاتب فرانز كافكا، قدم للسينما مسّاح الأراضي الذي يصل إلى قرية ثلجية صغيرة وترفض السلطات المحلية السماح له بالتقدم إلى القلعة المجاورة. تنشأ عقبات بيروقراطية معقدة بنحو متزايد. فيتساءل “لماذا يحدث كل ذلك؟”
في بداية فيلم The White Ribbon يقول مباشرة للجمهور: “لست متأكدًا إن كانت القصة التي أنوي حكيها حقيقية تمامًا… في النهاية الكثير من الأسئلة ظل بلا إجابة”. إذا كان ذلك غير متوقع وغير بديهي على السينما لدى المتلقي والصانع على حدٍ سواء، فإنه يبدو اختيارًا منطقيًّا بالنسبة إلى أستاذ الإخراج في أكاديمية فيينا الذي بدأ حياته كمخرج بالقطعة، وبالنسبة إلى سينماه المتسائلة الواضحة.
مشاهد طويلة وشخصيات غير مفهومة بالكامل، بدوافع قد تبدو متطرفة. يتحرك هانكه داخل أفلامه مع أبطال يعانون الوحدة المرضية. ويطرحون تساؤلات صعبة حول السلطة والحب.
يمكننا تقسيم مسيرة هانكه، إلى مرحلتين: ألمانية وفرنسية. ويمثل “الشريط الأبيض” عام 2009 عودته الوحيدة إلى السينما الناطقة بالألمانية.
تسعى أفلامه الأولى لتمثيل العنف ومساءلته. ويُتوِّج فيلم “ألعاب مضحكة Funny games“، في نهاية التسعينيات، هذا المسعى.
يتناول هانكه العنف المتمثل في الجرائم المرتكبة بواسطة شباب من عائلات برجوازية أوروبية. وحين سُئل عما إذا كان فيلمه “Funny Games” تفكيكًا للعنف، أجاب: “لا، بل تمثيل للعنف، محاولة تحليله من داخل الوسيط السينمائي نفسه”.
تكمن مشكلة هانكه مع تصوير السينما الهوليوودية للعنف، أو صورة العنف عمومًا في الميديا والسينما، في أن هذا التصوير يخلق من العنف شيئًا قابلاً ومعدًّا للاستهلاك. يشير هانكه إلى عنصر “الإثارة” الذي تضمنه التمثيلات الهوليوودية للعنف. هذه الإثارة تُحوِّل العنف إلى تجربة مشوقة في ذاتها، غير مدفوعة برغبة في الانتقام أو في تحقيق الثروة، وهو ما يراه في هذا النوع من جرائم شباب البرجوازية، إذ الرغبة في اختبار تلك الإثارة هي المحرك الوحيد للعنف.
صارت حكاية “ألعاب مضحكة/ مسلية” معروفة للكثيرين: اقتحام منزل عائلة ثرية وقتل كل أفرادها، وبين الاقتحام والقتل سلسلة من التهديدات وممارسة ألعاب التعذيب على الأب والأم وابنهما من قِبل شابين. والمرعب، أن الشابين يقومان بكل ما سبق في هدوء وبرود، ويتكلمان في تهذيب شديد رغم سلوكهما الدموي.
يتلاعب هانكه مع المتلقي. لكن ألعابه ليست سادية كما يبدو. إنها ألعاب أسلوبية وجمالية بالأساس. فهي، أولاً، تُناقض الأعراف السائدة والمألوفة في مثل هذا النوع من الأفلام القائم على الرعب النفسي وثيمة “الدخلاء في المنزل”، إن جاز التعبير. في فيلم هانكه، لا مطاردات أو أحداث مثيرة مُكللة بالنجاة. أحداث الفيلم مصورة بأسلوب متقشف وصارم لا يمت بصلة لأسلوب أفلام الإثارة والرعب. وثانيًا، يُقدم هانكه أسلوبية هدامة ومثيرة للأسئلة، فهو يعمد إلى أقصى واقعية ممكنة في تصوير مشاهد القتل والرعب، وفي الوقت نفسه يخرق النهج الواقعي عندما يغمز الشاب القاتل للكاميرا ويخاطبها، إضافة إلى المشهد الشهير الذي يكسر فيه هانكه أي إيهام ممكن.
عندما تنجح الأم في الوصول إلى بندقية وتطلق النار على أحد القاتلين، يندفع الآخر في ذعر باحثًا عن جهاز التحكم في التليفزيون عن بُعد، ويضغط زر الإرجاع. نرى أحداث الفيلم ذاته ترجع إلى الخلف إلى اللحظة السابقة على إطلاق النار. تُستأنف الأحداث، تُنزع البندقية من الأم وتُجهض محاولتها.
المشهد السابق يلخص مواجهة هانكه للجمهور. فهو يُشهدنا على أنفسنا أننا جمهور القتلة. ويكشف عن التواطؤ مع العنف على الشاشة. كذلك فإنه يحرم المتفرج من إشباعٍ منتظر أو راحة زائفة. الفيلم يواجه المتفرج كمستهلك لعنف صريح وواقعي، وكما يقول دانييل فرامبتون إن “الفيلم في الحقيقة يوبخنا على الرغبة في الحصول على قصة متخيلة على نحو نمطي”.
لام الناطقة بالفرنسية التي قدمها فتشهد تنويعًا على ثيمات وموضوعات هانكه المعروفة وقتها، داخل القوسين الذين يمكن حصر أفلامه السابقة بينهما: البرجوازية والعنف.
فإضافةً إلى رائعتيه “الشريط الأبيض” و”حب”، فإن فيلمه الفرنسي “مخفي Cache'” ذو أهمية مركزية. يجمع الفيلم غالبية الأفكار والسمات الفنية لأفلام المخرج النمساوي، المبكرة والمتأخرة.
يبتعد cache’ عن التقشف المبالغ فيه الذي وسم أفلامه الأولى، ويقترب من الطرح العميق والفاحص لسؤال السياسة وأبعادها الاجتماعية كما تجلى في فيلمه اللاحق “الشريط الأبيض”.
اللقطة التأسيسية الأولى للفيلم مراوغة: واجهة بيت عادي في شارع هادئ، وتبدو كلقطة من كاميرا المخرج، لكن بعد دقائق نسمع حوارًا من خارج الكادر، يتساءل طرفاه عن معنى ما نراه ومن الذى صوَّره، لندرك بعد ذلك أن هذا المشهد الطويل إنما هو جزء من شريط فيديو يشاهده الزوجان، جورج وآن، اللذان عثرا على الشريط على عتبة منزلهما.
تتصدع حياة الأسرة الهادئة مع استمرار تلقي الشرائط. تحمل الشرائط إشارات تُحيل إلى ماضي جورج. وتصيب الأسرة بارانويا ناجمة عن وطأة الإحساس بالخضوع للمراقبة. ينبش جورج ذاكرته وماضيه بحثًا عمن يمكن أن يكون وراء تلك التهديدات.
تستمر الأشرطة في الوصول لكنها هذه المرة وكأنها تستدرجهما لحل أحجية ما. وبتتبع جورج الأثر، يلتقى جورج برجل جزائرى الأصل يُدعى ماجد في بناية فقيرة، ويتهمه جورج بأنه وراء تلك الأشرطة ويهدده، لكن ماجد ينفى معرفته بالأمر.
يخبر جورج زوجته آن عن شكوكه تجاه ماجد، وعندما تسأله لماذا، يخبرها على نحو “عابر” أن “والدَي ماجد كانا يعملان لدى والدِي، وقد قُتلا في أثناء مظاهرة سنة 61 التى دعت لها جبهة التحرير الوطنية” ويضيف: “مذبحة باريس.. موريس بابون.. 200 قتيل في نهر السين”.
أراد والدا جورج تبني الطفل ماجد بعد مقتل والديه، لكن جورج الذي كان يبلغ السادسة وقتها، مدفوعًا بغيرة الطفل يختلق أكاذيب “بيضاء” ويدبر مكيدة للتخلص من الصبي الجزائري، وإيداعه في النهاية في أحد الملاجئ، وتنقطع أخباره من حينها.
ماجد يهاتف جورج الذي تلاحقه الكوابيس، وحين يصل الأخير إلى شقة ماجد البائسة، يخبره ماجد أنه لم يرسل تلك الشرائط، ويضيف “أردت فقط أن تكون حاضرًا” ، ثم ينتحر أمامه بنحر رقبته، في مشهد مباغت وبالغ العنف والصدمة والدلالة.
حبكة شبه هيتشكوكية، تعتمد على الإثارة النفسية لكنها لا تعمد إلى إماطة اللثام نهائيًّا، بل ترجئ الكشف إلى ما لا نهاية.
الأخير أنه لا يشعر بعقدة ذنب بسبب انتحار ماجد، ولا يمكن لابنه أن يزرع بداخله هذا الشعور، أو يبتزه ويجعله مسؤولاً عن حياة والده البائسة، فيخبره الابن بهدوء: “أردت فقط أن أعرف كيف حال ضميرك”.
هذا الإنكار المستميت من جانب جورج يماثل إنكار الدولة الفرنسية لمذبحة باريس بقيادة بابون قائد الشرطة وقتها، وهو الإنكار الذي استمر لأكثر من 50 عامًا. وخشية جورج من مواجهة ماضيه هى خشية فرنسا التي، إلى تاريخ إنتاج الفيلم عام 2005، لم تكن قد واجهت كدولة، ماضيها الاستعماري الدموي.
كأن سلوك الدولة يتمثله الأفراد، والوعي والضمير الفرديان لا يتشكلان بمنأى عن الأحداث السياسية والاجتماعية، بل تأتي صياغتهما ضمن مستوى أعم وأشمل، ووفق سياسة الدولة بوصفها تنظيمًا لحياة الأفراد الاجتماعية. الأحداث كبرى لا تصير كذلك إلا إذا أثرت في أصغر تفاصيل حياة الأفراد اليومية.
يؤكد فيلم “مخفي” على نهج هانكه في مساءلة “حقيقة” و”ماهية” الصورة. ويهز ثقة المتفرج بـ”الواقع”، عبر استخدامه لتقنية الفيلم داخل الفيلم، بتداخل “واقع” الفيلم مع لقطات أشرطة الفيديو.
كما ينطوي اختيار هانكه لوظيفة جورج كمٌعد ومقدم برنامج “ثقافي” وزوجته كمحررة في دار نشر، على دلالة بالغة الأهمية، حيث يستكمل نقده للبرجوازية ممثلة هذه المرة في “النخبة” الفرنسية، ويلمح إلى خيانتها لدورها في مساءلة الذاكرة الجمعية الدموية.
صارت تلك النخبة كلاب حراسة جديدة، ومكرسة للأوضاع والمصالح السائدة، كما يبين المفكر الفرنسي بيير بورديو في كتابه “التليفزيون وآليات التلاعب بالعقول”. يقول بورديو: “توجد اليوم “عقلية أوديماتية” (مهووسة بنسبة الإقبال) في أروقة صالات التحرير، في دور النشر، إلخ… تفكر وفقًا لاعتبارات النجاح التجاري. اليوم وبنحو متزايد أكثر وأكثر جرى الاعتراف بالسوق كجهة رسمية لإضفاء الشرعية. إننا نرى ذلك جيدًا عبر هذه المؤسسة الحديثة التى تعرف بقائمة أفضل المبيعات Best – sellers، لقد سمعت هذا الصباح أحد المذيعين.. إنه يعطي رقم المبيعات كحكم مطلق، كحكم نهائي”.
على الرغم من غياب الرسالة السياسية الصريحة في غالبية أفلام هانكه، فإنه فنان أشد أصالة وأعمق التزامًا من فنانين كثيرين يوظفون الفن لأغراض “يسارية” أو “ثورية”. لا يتحدث هانكه “عن” العنف أو القمع، بل تتمثل مفاهيمه وأطروحاته من خلال الصورة واللغة السينمائية. فوفقًا للفيلسوف والمُنظر الجمالي ثيودور أدورنو، فإن العمل الفني “الأصلي” أو “المستقل” يقف في تعارض مع الأعمال التي تدين بوجودها إلى منظومة الإنتاج السلعي. يتعامل هانكه مع الجمهور كأفراد لا مستهلكين.
الفن المستقل يتسم بصفة “هدّامة” تتحدى الوضع القائم ولا يكتفي بالتعبير عن هذا الوضع، غير أن ما يبديه الفن المستقل من تحدٍ ليس مجرد “سخط واحتجاج على العصر”. يوضح أدورنو أن الأهم هو “الكيفية التي يتخذ بها شكل العمل الفني مواقف معينة بالعلاقة مع المجتمع”.
“عازفة البيانو” أول عمل للروائية النمساوية ألفريدة يلينيك يتم تحويله للسينما. تقول يلينيك إنها ترددت كثيرا في السماح بتحويل أعمالها إلى أفلام، لأن لغة رواياتها السردية شديدة التركيب. ولم تتصور أن صور الفيلم يمكنها إضافة أي شيء جوهري. لكنها تؤكد على أن بمقدورها العمل مع مخرج مثل هانكه لأنه “يملك ما يضيفه للنص انطلاقًا من معياره الخاص للصور”، والقدرة مثلها على “إمكانية أفضل لنقد المجتمع من منظور سلبي”.
يتخذ فيلم “عازفة البيانو” شكلاً من التفكير في شخصيته الرئيسة إيريكا عبر الإطار والصورة، في نوع من التأطير المتباعد الذي يُشعرنا بعزلتها وانفصالها. أي يضعها الفيلم في الإطار من الخلف. نرى سيدة عزباء رغم سنها غير الصغير تعيش مع والدتها التي تسبب لها الإزعاج الدائم في حين تفكر الفتاة خلال أحلامها في التخلص من والدتها رغم حبها الكبير لها. ويعبر الفيلم عن طبيعة العلاقات الجنسية في المجتمعات الطبقية، فهي تتشكل وفق بنيات سلطوية.
يخلق هانكه في أفلامه بناءً سرديًّا يوازي الوعي/ العقل في مستوياته المختلفة، ففي أغواره تقبع ذاكرة العنف أوالمذبحة أو القمع.
ففي “الشريط الأبيض” يحفر هانكه عميقًا في الذاكرة الجمعية. وخلافًا لغالبية الأفلام التي تناولت النازية، فإنه يبتعد عن التوثيق والتسجيل لأحداث تاريخية كبيرة. ويتقصى جذور العنف من خلال سلسلة من الحوادث التي تقع في قرية ألمانية قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى.
يكشف هانكه عن جذور النازية بتصويره للكيفية الصارمة البيوريتانية التي نشأ وتربى عليها الأطفال في العقد الثاني من القرن العشرين. هولاء الأطفال هم الجيل الداعم للنازية في المستقبل. لذلك اختار هانكه عنوانًا جانبيًّا للفيلم هو “قصة أطفال ألمانية”.
في كتابه “عن الأسلوب المتأخر: موسيقى وأدب عكس التيار“ ينقد إدوارد سعيد، مستلهمًا أدورنو، المنجز الإبداعي لعدد من الفنانين في مرحلة متقدمة من حياتهم، تحدوا “مداهمة الموت” بالسير عكس التيار في المضمون والشكل.
الأسلوب المتأخر لفنان ما هو نوع من التمرد، أو النزوع إلى نوع من الأسلوب المتجرد بعيدًا عن الزخرفة والتعقيد. وهو تمثيل لأعلى درجات الصنعة، وتمثيل للعلاقة بين “الحالة الجسمانية” و”الأسلوب الجمالي”.
يتناول سعيد في الأدب جان جينيه، وكفافيس وتوماس مان، وفي الموسيقى باخ وموزار وبيتهوفن وشترواس، ولا يتناول أمثلة من السينما سوى فيسكونتي، المخرج الإيطالي الكبير. وبدورنا، مستلهمين سعيد وأدورنو، نضع هانكه برائعته “حب” مجاورًا فيسكونتي وبتهوفن.
يحكي الفيلم قصة حب بين زوجين موسيقيين في شيخوختهما، وما يطرأ على تلك العلاقة العتيدة من تغييرات مع مرض الزوجة وفقدان قدراتها تدريجيًا. هل يفكر الزوج بدافع أنانية الإنسان الغريزية في التخلص من زوجته التي أصبحت تسبب إزعاجًا الآن؟ إلى أي مدى يمكن للإنسان أن يحتمل أحباءه؟
فيلم “حب amour“ هو فيلم عن الموت، بل يمكن اعتباره أسلبة [تحويل إلى أسلوب] للموت وتجسيد بصري للألم. أقصى تعبير ممكن عن حقيقة الشرط الإنساني. إيقاع الفيلم يتمثل الشيخوخة والوهن ويرصد “تحلل الجسد” وخيانته. لا عزاء يمكن تقديمه في مواجهة زحف الموت. يأتي الموت بقسوته على أخضر الذاكرة ويابسها، فلا يُنهي المستقبل فقط بل يغتال الماضي كذلك. يُعري هانكه الألم بلا مجازات، لعلّ في ذلك يكمن سبيل المواجهة الوحيد.
هذه هي سينما مايكل هانكه: خوف يحتوي الصانع والمشاهد، عالم مليء باللا مساواة، الألم غير محتمل، والعنف نستشعر أثره ولا نراه بأعيننا. كره علني للبرجوازية أينما وُجدت. بطء حركة الكاميرا والشخصيات يتجاوز احتمالنا ليثبّت تساؤله للجميع كي ينتج كل فرد إجابته وحيدًا: ما الذي تنتظره من العالم؟ ولماذا؟
ينتمي مايكل هانكه إلى الجيل الذي أحيا أوروبا بعد الحرب. الجيل الذي نظر إلى إرث الماضي بغضب وحاول مقاومة آثاره الباقية، ومقاومة غياب العدالة في عالمنا المعاصر. وكما يقول هانكه فإنه لا يصدق أن العمل الفني بإمكانه تغيير الفرد أو المجتمع، لكنه يؤمن بأن العالم دون فن سيصير أكثر فقرًا، وأن الفن في مجموعه قد يخلق من العالم مكانًا يمكن احتماله.
نٌشر في: ذات مصر.
كتب: محمد عمر جنادي/ حسام الخولي.
Comments