top of page

aboutMe

Egyptian writer and photographer, graduated from the Faculty of Media and Communication Arts, Radio and Television Department, interested in writing in philosophy, literature and film criticism.

ملل السينما الممتع

  • صورة الكاتب: Hossam Elkholy
    Hossam Elkholy
  • 20 ديسمبر 2021
  • 7 دقائق قراءة



دعني أطرح تساؤلًا، وأنت لا تزال بكامل حماسك: هل تصلح قصة «تايتنك» (1997) دون معايشتها أكثر من ثلاث ساعات مع الغوص في مشاعر الجميع على السفينة؟ أو ملحمة ستانلي كوبريك «سبارتكوس» (1960) هل تعتقد أنه يمكن قص أجزاء منه لعدم الشعور بالملل، أو حتى مشاهدته على فترات مختلفة لإنهاءه؟ أفلام مثل «الطاقم الصحيح» و«الوصايا العشر» و«لورانس العرب» و«كليوباترا» و«ذات مرة في أمريكا» وحتى «الحرب والسلام»، أو أغلب أعمال لاف دياز، وإلى جانبها مانيفستو السينما «ذهب مع الريح» وأشباهها من الملاحم السينمائية الطويلة الممتدة لساعات، هل يمكن عمل اللازم من قص ولصق للهرب من ملل الساعات الثقيلة داخلها؟


ما لديّ من تساؤلات صنعته أو تسببت فيه هذه الأفلام وأشباهها؛ لماذا تلعب السينما بالزمن وتمدّده على المُشاهِد إلى أوقات أحيانًا تصل إلى ما يزيد عن ثلاث عشرة ساعة كما جرى في La Flor؟ وماذا لو أننا أردنا طرح التساؤل القديم الساذج: هل هناك وقت طبيعي للأفلام أساسًا؟ ولماذا عليّ الجلوس لساعات طويلة في مشاهدة فيلم واحد بقصة وحيدة ولا أستجيب لوساوس الذهاب إلى أقرب مسلسل متعدد الأحداث خفيف الاستقبال بدلًا من تلك الحبسة الاختيارية؟ وهل هناك قصص سينمائية تحتاج ما يقرب لأكثر من ثلاث ساعات لحكيها دون حشو؟ وإذا كان الهدف الأسمى من الفُرجة -أو الحياة عمومًا- الهروب من الملل فلماذا لا نبعُد عن الشر ونغنّيله؟ وما هي مركزية الوقت الثقيل سينمائيًا الخفيف تلفزيونيًا؟ وقبل كل ذلك، لماذا أحب الأفلام المملة؟


في الفيلم الصيني «غبت طويلًا يا ابني» (2019) الذي يحكي قصة حقيقية لأسرة صينية عايشت الثورة الشيوعية. زوجان وطفل، حوالي عشر سنوات. تعيش الأسرة الثلاثية في صداقة مع أسرة مماثلة في كل شيء لدرجة أن طفلي الأسرتين وُلدا في اليوم ذاته، حالة توحد على مستوى الأسرة تتوازى مع صداقة

طفولية.


منزل صغير لكل أسرة، وكاميرا تقف في مكان بعيد نسبيًا تعطي إحساسًا بمساحات واسعة رغم ضيق البيت. طعام ساخن تلتصق به كل أسرة مع طفلها، دائمًا هناك طعام يتصاعد بخاره الساخن ليزيد حرارة الصورة، دائمًا هناك ابتسامات رغم تعب العمل. تحتمي الأسرتان ببعضهما وبيت كل منهما الصغير مجازًا وواقعًا. ماذا تنتظر؟ حسنًا، أنا أنتظر مثلك لمسة القدر التي يزعجها هذا الهدوء، أُريدُ أكشنًا.


رغم الطفولة المشابهة نجد طفل الأسرة الصديقة لأسرة بطلي الفيلم جريئًا عن الطفل الآخر الهاديء تمامًا مثل أسرته، حريصًا، غير مُخاطر، ولا يستطيع السباحة، يطلب منه صديقه أن ينزل معه إلى البحيرة دون خوف من سخرية الأطفال الآخرين من جبنهما، ولا يستجيب إلّا في المرة التي يهدده فيها أنه إذا لم ينزل معه البحيرة فأنهما لن يكونا صديقين، وبسبب ذلك يغرق طفل الأسرة الوحيد.


ببطء شديد نتابع نهاية الأسرة الثلاثية السعيدة، يقرر العضوان الحيين ترك المدينة تناسيًا، أو توهّمًا بالتناسي. يذهبان بعيدًا دون أصدقاء ليكملا حياة توقفت وفي انتظار الموت.هذا حزن مقيم.


وقد تظن، وبعض الظن إثم، أنني مثل آخرين أحاول شرح الفيلم وحرقه لإفساد المتعة على الآخرين، لكن ما حكيته توًا لا يتجاوز النصف ساعة الأولى منه. أنا فقط أدور حول القصة، بل ما حكيته هنا سيكون إرهاصًا لما ستشاهده إذا سمح وقتك ومجهودك بذلك، سوف تشاهد أكشنًا غير هوليودي بدون قوة خارقة تتحدى المستحيل ولكمات في الوجه تسبب تبول لا إرادي. ستشاهد في «غبت طويلًا يا ابني» حياة تتحول أمام أعين أصحابها، وناس تقفز من الشباب إلى الشيخوخة فجأة دون مقدمات، مرور الزمن يجعل طعام الأسرة الحميمي الساخن سابقًا يخرج الآن من الثلاجة ويُؤكل كأنه لشاب أعزب يتناوله كي لا يسقط أرضًا بعد انتهاء دوامه.


الثلاث ساعات الممتدة على مدار الفيلم، هو وقت طويل ليس لأن هناك تطويل مقصود، لكن لأنه يطمح لما يتجاوز ذلك، أن يعبّر عن الحياة ذاتها.


تساؤل اللعب بالزمن ليس جديدًا، لكنه اكتسب جمهورًا أوسع مع الفيلم الأحدث لمارتن سكورسيزي «الأيرلندي» المُمتد لحوالي ثلاث ساعات ونصف الساعة. احتاج الفيلم هذا الوقت الكبير نسبيًا ليحكي عن أمريكا هذه الفترة؛ كيف كانت تسير الأمور، وسرد رحلة البطل نفسه من رجل بسيط لفرد له صلة باختفاء زعيم المافيا وقتها. الوقت الكبير يجعل المشاهد يتوحّد والقصة أثناء جلسته أمام هذا العجوز الجالس الذي يملك الزمن ويبصقه بهدوء.


عجوز يجلس على كرسيه الأثير، وراءه خلفية هادئة لأسرة تمارس حياتها بشكل طبيعي، بينما هو يحكي قصة حياته المليئة بالدماء والمغامرة، ثمة أحاديث لدى كبار السن يريدون مشاركتها لقتل الوقت، ومع الأيرلندي فرانك شيران ونقابة العمال التي عاش حياته داخلها نشاهد أحد هذه الأحاديث. استخدم سكورسيزي تقنية تعديل السن رقميًا ليستخدم الممثلين ذاتهم بينما يلعب على تغيير ملامحهم ليصبحوا أصغر سنًا على مدار حُقب زمنية مختلفة.


مرور الوقت يعني الكثير من التفاصيل والتعلق والصداقة، والتوحد مع الحكاية الحقيقية التي لا تنتظر تطور أحداثها بقدر التوحد معها، حكايات صُنعت لتدهشك. تمامًا مثلما فعل المخرج فيكتور إيريسي في فيلم «شمس شجرة السفرجل» (1992) عندما حاول تصوير الرسام العالمي أنطونيو لوبيز وهو يقتنص لحظة معينة من اليوم تكون فيه الشمس تاركة ظلها بدرجة ما على الشجرة.


مبتكر النسبية ألبرت أينشتاين المهووس بفكرة الزمن عمومًا، ذلك الولد الذي سبق عمره وشاف بكرة والوقت بدري قضى السبع سنوات الأكثر إبداعًا في حياته وشبابه كموظف فحص طلبات براءات الاختراع، وظيفة روتينية مميتة تناسب مع أينشتاين أو غيره. لكن وظيفة السبع سنوات جعلت أينشتاين يقبل الملل الموازي لملل الحياة ذاتها، بل أن أبحاثه التي أعدها في سنوات ملله وشاهدها تتنشر ببطء «تُسبب دائمًا لحظة من الدهشة، حتى لو كان المرء قد قرأ البحث من قبل ويعرف خلاصة الموضوع»، بحسب ما ورد في سيرته. هذه الدهشة قادمة من أفكار قُدّمت ببطء وهدوء دون صراخ. لحظة الدهشة، التي انتزعها أينشتاين لنفسه، تتشابه مع الدهشة الساكنة في القصة السينمائية الثقيلة المكثّفة المملة البطيئة التي تستحوذ عليك لساعات. تقنعك بمنطقها وعاديتها وتستبدل التكثيف والصراخ بملل طولها وتسعى لدهشتك، حتى لو كنت تعرف خلاصة الموضوع.


في مسرحيته «كما تهوى» لوليام شكسبير، عندما سُئل أحد أبطاله «كم الساعة؟» قال إن لا وجود لساعة في الغابة. وكانت الغابة ربما رمزية عن المكان الذي لا خروج منه ولا حياة حقيقية فيه ولا نفع لمعرفة الساعة داخله، هذه أشياء وحيوات من الأفضل ألا نفهمها بالوقت قدر فهمها بالتجربة وثقلها، وتوحد شعورنا الكامل مع أبطال الفيلم الذي يرسّخه الوقت ليس كحشو فارغ، بل عبر حركات الكاميرا البطيئة التي تزيد ثقل الوقت أكثر، لطهي المشاعر التي يكبر فيها الجميع ليصبحوا كهولًا رمزيًا وعضويًا، من الطفولة للشباب؛ تحوّل طفل هادىء لرجل يصارع الحياة تمامًا مثل مُشاهِده. الشعر الأبيض وانحناءة الظهر والنظر في السقف لساعات دون انتظار شيء. ربما كل ذلك الملل الصادق هو بيت القصيد.


في فيلم المخرج الفرنسي جاكو ريفيت يتتبع على مدار حوالي أربع ساعات محاولة رسام عالمي رسم عارضة جديدة، نقف دقائق كاملة مع ريشته وهي ترسم فعلًا، ونجرب المشاعر ذاتها في مسرحة كاملة للعالم السينمائي. وهو التتبع ذاته الذي قام به المخرج ريتشارد لينكلاتر في «زمن الصبا» (2014) حينما قدّم قصة حياة الصغير ماثون منذ طفولته إلى أن دخل الجامعة، أخذ تصوير الفيلم حوالي 12 عامًا بالفعل، كبر معه فريق العمل بالفعل دون حاجة إلى استخدام الخيال.


القبض على الزمن، أو لحظات منه، كان هوس لينكلاتر في مشوار أبطال أفلامه؛ بطله المتسكع بالمدينة في «المتكاسل» في بدايات مشواره السينمائي، ثم أبطاله من بعده الذين يقضون أفضل أوقات فراغهم قبل دخول الجامعة في «الجميع يريدون القليل»، والوقت المستقطع الذي يقضيه بطلاه في القطار وهما على علم بأنها ستكون الأخيرة في «قبل غروب الشمس» بعد أن يجعلهما يتقابلان بعد ذلك بتسع سنوات في «قبل منتصف الليل» ليقبض على لحظة أخرى مسروقة من الزمن.


الزمن هنا داخل اللعبة وركيزة لتقديم فكرة لا تصل دون مروره البطيء والملل الذي ينتجه.


المخرج الأمريكي وليام ويلر قدم عددًا من الأفلام التي تدور قصصها حول موقفه من الحب؛ كيف تتحول مشاعر البشر من البحث عن المصلحة إلى الحب المجرد، وكيف يمكن أن يجعلنا الحب أشخاصًا أفضل. لكن ملحمة ويلر الأهم في مشواره السينمائي هي فيلم «بن حور» المُمتد لأكثر من ثلاث ساعات، لماذا؟ لأن حكاية واحدة يمكنها أن تخبرنا كثيرًا عن الصداقة التي تقطعها المصالح والحب الذي لا تهدمه السنوات، وكل تلك الأشياء التي على ما يبدو أصبح الحديث حولها يجلب السخرية. يؤسس للقصة منذ المشاهد الأولى ثم يبدأ في تقليل الحوار ليترك مساحات للوجوه والموسيقى وآثار الأيام في الأبطال والوقت الذي لا بد أن يمر على المشاهد ببطء أيضًا.


في أحد المشاهد العابرة في ملحمة «صائد الغزال»، فيلم صداقات الحب والموت، تقول إحدى بطلاته (ميريل ستريب) لمايكل (روبرت دي نيرو) البطل: «هل فكرت يومًا أن الحياة سوف تتغيّر بهذا الشكل؟» بعد ذلك تجيب الحياة ذاتها داخل الفيلم عن هذا التساؤل بكل اللهو والطموح الذي حوّلته الدنيا لمأساة. مخرج «صائد الغزال» مايكل كيمينو، أوجد طريقته بين الكبار ربما بوجود ملاحم مثل «صائد الغزال» أو«بوابة السماء» وكلاهما يزيد عن ثلاث ساعات.


في فيلم «حياة خفية» تُحكى قصة مزارع نمساوي شاب رفض أن يقسم يمين الولاء لأدولف هتلر كما فُرض على النمساويين جميعًا، ولم يكن في موقفه هذا مدفوعًا سياسيًا بل استند إلى موقف أخلاقي يجعله يرفض أن يشارك في عمل يتنافى مع القيم الإنسانية وينتهك بلاد الآخرين، أو الخوض في القتل من أجل التوسع والسيطرة. حوالى ثلاث ساعات من حركة الكاميرا البطيئة على الأشياء، يبدو عالم المزارع في الأول فردوسًا أرضيًا، ثم يلتحم المُشاهِد مع البطل وعالمه الذي ينهار ويتحول كل شيء إلى رماد. وجبة سينمائية تؤكل بهدوء، ولا بد من مرور الوقت لهضمها بالتدريج أيضًا.


وفي الحديث عن الفيلم يجب التوقف عند مؤلفه ومخرجه تيرانس ماليك الذي يقدم ما يريد دون ذرة تنازل لصالح تجارية أو رواج الفيلم، بل يكفيه فيلمًا واحدًا كل عقد أو عقدين من الزمن.


بجانب ماليك، وبعدد أفلام أقل، يأتي المخرج بيلا تار الذي يحكي في أحد حواراته قائلًا إن «من الملاحظ أن أحدًا لا يقول عن مقطوعة موسيقية إنها طويلة، حجّة الطول حكر على السينمائيين على ما يبدو، لا أعرف من الأحمق الذي قال إن على الفيلم أن يكون 90 دقيقة… لقد أنجزتُ سابقًا فيلمًا طوله خمس دقائق وأنا فخور جدًا به. انتابني شعور الفخر نفسه، وأنا أنجز ‘تانغو الشيطان’ أحيانًا أشعر بالحاجة إلى الاختزال، وفي أحيان أخري أحب أن آخذ وقتي في التعبير… أنجزت تسعة أفلام وأعتبر ‘تانغو الشيطان‘ -الممتد لسبع ساعات ونصف الساعة- خمسة أفلام.»


الانصهار في الزمن أو السيطرة عليه سينمائيًا محض وهم، على ما يبدو أن الجميع يدرك ذلك، لكنه يظل وهمًا مقدسًا يمتد ويستمر للأبد ما دام هذا الوهم الممل يُنتج لحظات توحّد يصعب التعبير عنها بكلمات، أو مثلما قال المخرج التركي نوري سيلان بعد فيلمه الطويل الممل الأكثر أهمية في تاريخه برأيي «شجرة الكمثرى البرية»: «بعد سنوات من مشاهدة الأفلام المملة؛ هذا الملل قد يفعل معجزة.»


قد يكون حبي لتلك الأفلام محض قتل لحياتي المملة، لكن ما أوقن منه جيدًا هو الإلهام الذي تخلقه لديّ هذه الأفلام حينما تجعلني في كل مرة أغيّر نظرتي تجاه الزمن. أخرج، من المشاهدة، وفي قلبي تساؤل، إجابته تدهشني كل مرة: كيف يتحكم إحساسي بالزمن في تصوري عن العالم، وليس السينما فقط. كيف يمكن لتلك الأفلام التي تورطني زمنيًا معها أن تأخذ عقلي أكثر من أي شيء آخر، وتجعلني أحب الملل.. ملل السينما الجميل.



 
 
 

Komentáre


bottom of page